مقالات

عن الأسباب العميقة لحرب غزّة: لا خلاف إسرائيلياً على الإبادة

عن الأسباب العميقة لحرب غزّة: لا خلاف إسرائيلياً على الإبادة

يحيى دبوق

يُصرّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على الاستمرار في حربه ضدّ قطاع غزة، بما يشمل عمليات القتل الجماعي والتدمير الشامل والتشريد الواسع، تحت ذريعة «الانتقام من حماس واستعادة الأمن». ومع تصاعد الانتقادات الدولية والانقسامات الداخلية، برز تفسير شائع يربط استمرار الحرب بعدم رغبة نتنياهو في فقدان دعم ائتلافه السياسي المتطرّف، خشية سقوط حكومته. لكنّ الحقيقة أعمق من ذلك؛ إذ ترتبط بجوهر أيديولوجي متجذّر، له عمق تاريخي، وتغذّيه البنية النفسية والاجتماعية لمعظم الإسرائيليين.

وفي ما يلي بعض الإيضاحات بهذا الخصوص:

أولاً: يزعم البعض أنّ نتنياهو أقلّ تطرفاً من شركائه في الحكومة، وعلى رأسهم الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وأنّه يستجيب لضغوطهم للحفاظ على تماسكها، تحت طائلة خسارة السلطة وإضعاف قدرته على مواجهة ملفاته القضائية التي قد تودي به إلى السجن. غير أنّ الواقع يقول إن نتنياهو لا يقلّ تطرّفاً عن أولئك، بل يتميّز بقدرة أكبر على تغليف أفكاره بسياسات تبدو دبلوماسية وأقلّ صدامية، ما يسمح له بالاحتفاظ بصورة «أقلّ تطرّفاً» مقارنة بأقرانه، بينما يمارس فعلياً السياسات نفسها التي يتبنّاها المتطرّفون في حكومته.

وبن غفير، مثلاً، يطلق تصريحات فجّة ومباشرة عن «القضاء على الفلسطينيين»، فيما يتجنّب نتنياهو مثل هذا الخطاب، ويفضّل تطبيق السياسات نفسها بأساليب أكثر هدوءاً. وهو لا يرى أصلاً حاجة إلى التصريح بأنّ الفلسطينيين «حشرات»، لأنّه يتعامل معهم على هذا النحو في الواقع اليومي، وهو ما لا يعبّر عن سلوك فردي، بل يعكس طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع الإسرائيلي برمّته.

ثانياً: لا يمكن فهم سلوك نتنياهو، ولا السياسات الإسرائيلية عموماً، من دون العودة إلى البنية الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها معظم الإسرائيليين. فمنذ الطفولة، يتلقّى الإسرائيلي رسالة واضحة: «أنت أفضل، والآخر – خصوصاً الفلسطيني – أقلّ شأناً، وغير مهم»، في رسالة تتكرّس من خلال العائلة، والمدرسة، والإعلام، والدائرة الاجتماعية. هكذا، ينمو الطفل اليهودي وهو يسمع عن «الشعب المختار»، ويُلقَّن بأنّ الفلسطيني تهديد دائم، ما يخلق بنية نفسية تنزع إلى نفي الآخر ورفض الاعتراف بإنسانيته.

وتفسّر هذه البنية كيف يمكن لجندي إسرائيلي عادي أن يشارك في القتل والتدمير من دون أدنى شعور بالذنب، وكأنّه يؤدّي واجباً أخلاقياً أو وطنياً. والواقع أنه منذ تأسيسها، لم تكن الدولة اليهودية مشروعاً سياسياً فحسب، بل أيضاً مشروعاً ثقافياً وأيديولوجياً يقوم على فكرة السيطرة الشاملة على الأرض وإنهاء الوجود الفلسطيني. وبالتالي، فإن نتنياهو ليس استثناءً، بل هو تجسيد صريح لهذا المشروع، وإن تتيح له خبرته السياسية التقدّم بخطاب أكثر حنكة.

الحرب في غزة خيار أيديولوجي محسوب، لا مجرد ردّ فعل سياسي أو أمني

ثالثاً: من التفسيرات الشائعة لاستمرار الحرب، مقولة: «إذا توقّفت الحرب الآن، سيسقط الائتلاف الحكومي». لكنّ هذا الافتراض ليس مؤكداً، ويبدو أنّه يُستخدم كمبالغة سياسية مريحة، إذ صحيح أنّ هناك مكوّنات متطرّفة تهدّد بالانسحاب، غير أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّها ستُسقِط الحكومة. فالمصالح السياسية والأيديولوجية والاستيطانية، وخصوصاً في الضفة الغربية، كلها أهداف بعيدة المدى لهذه المكوّنات، وتتطلّب الحفاظ على الهيكل الحكومي لتحقيقها. كما أنّ أجندة المتطرّفين لا تقتصر على غزة، بل تشمل مشروعاً أوسع لإعادة تشكيل الهوية الإسرائيلية وتكريس الاستيطان في فلسطين التاريخية.

وفي موازاة ذلك، فإنّ نتنياهو لا يبدو مقيّداً بالائتلاف بالمعنى الحرفي، بل يستخدمه كغطاء لتبرير قراراته الأيديولوجية. وهو يختار البقاء مع تلك القوى لأنّه يشاركها الرؤية نفسها، ويعلم أنّ الشارع الإسرائيلي – بما فيه التيار الليبرالي – لا يعارض سياساته جذرياً. ولذا، فإنّ التذرّع بخوفه من السقوط أو من ملاحقاته القضائية لا يُخفي حقيقة أنّ خياراته نابعة من قناعة فكرية وسياسية.

رابعاً: استمرار الحرب لا يبدو ضرورة سياسية أو أمنية فقط، بل هو خيار استراتيجي مدروس، يقوم على قناعة راسخة بأنّ القوة العسكرية هي الوسيلة الفُضلى لتحقيق أهداف إسرائيل، سواء في غزة أو في ساحات أخرى. وليس من المبالغة القول إنّ نتنياهو يرى في هذه الحرب فرصة لإعادة ترميم الردع، وفرض تصوّره لحدود الدولة، وتكريس منطق الإبادة كوسيلة لتحقيق ما يراه «الأمن الإسرائيلي».

خامساً: الرغبة في الإبادة ليست طارئة على المشروع الصهيوني. فمنذ ما قبل إعلان قيام الدولة عام 1948، كانت مقولة «أرض بلا شعب» تعبيراً عن طموح يتجاوز الطرد إلى الإلغاء الكلّي للوجود الفلسطيني. وقد سعت إسرائيل إلى تحقيق ذلك بالقوة حيناً، وبالتطهير العرقي حيناً آخر، وبتقنيات متعدّدة تجمع بين القتل والتجويع والسيطرة. والحرب الحالية ليست سوى فصل إضافي في هذا المسار الطويل. ولو توفّرت لإسرائيل الإمكانية لتنفيذ مشروعها بشكل شامل، لما تردّدت، غير أنّها تعمل وفق معادلة القتل التدريجي، تحت غطاء دولي أو صمت غربي، ومن دون كلفة دبلوماسية عالية.

سادساً: الولايات المتحدة شريك مباشر في هذه الإبادة، إذ لا يمكن فصل ما تقوم به إسرائيل عن الدعم الأميركي الشامل، سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، والذي من دونه ما كان لإسرائيل أن تستمرّ بهذه الوحشية. وعليه، فإن الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحالية، من الحزبين، تتحمّلان مسؤولية متساوية عن ما يجري في غزة؛ ذلك أن بلادهما ليست مجرّد داعم خارجي، بل طرف فاعل في صناعة القرار الإسرائيلي، وفي منحه الشرعية الزائفة على الساحة الدولية. ولو أرادت واشنطن إيقاف الحرب، لفعلت بسهولة؛ لكنّ استمرارها يخدم مصالحها الاستراتيجية، وربّما حتى حساباتها الداخلية المرتبطة بالانتخابات واللوبيات.

في المحصّلة، نتنياهو ليس أسيراً لائتلافه، بل هو عماد هذا الائتلاف. وهو لا يتّخذ قراراته مُجبراً، بل بملء إرادته، وبناءً على قناعة أيديولوجية راسخة. والحرب في غزة ليست صدفة، ولا نتيجة ضغط مرحلي، بل هي تعبير عن سياسة صلبة ترى في الفلسطيني تهديداً وجودياً يجب التخلّص منه، سواء بالقتل، أو التشريد، أو الحصار. وتجد إسرائيل في هذه اللحظة فرصة نادرة لتحقيق هذا الهدف، ولا تتردّد في استغلالها.

أما الأصوات الإسرائيلية المعارِضة، فهي جزء من لعبة داخلية، تهدف أحياناً إلى تحسين شروط التفاوض أو الحفاظ على التوازن السياسي، وليس إلى إيقاف الحرب فعلياً. حتى أولئك الذين يطالبون بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل هدنة، لا يفعلون ذلك انطلاقاً من رفض للمجزرة، بل من باب البراغماتية. فالحرب على غزة، من وجهة نظر إسرائيلية، هي إنجاز استراتيجي، والتخلّي عنها خسارة لا تُحتمل حتى لمن يرغب في إنهائها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب