عن منطق الجناح القصوي في «حماس»

عن منطق الجناح القصوي في «حماس»
جلبير الأشقر
لم يعد خافياً على أحد أن وجهتي نظر متناقضتين إزاء حرب الإبادة الصهيونية الدائرة في غزة تتعايشان في إطار حركة «حماس». وعلى ما يبدو، فإن أفصح تعبير عن كل من الرأيين، إنما يأتي على لسان قائدين من قادة الحركة المقيمين خارج القطاع، بل خارج فلسطين: موسى أبو مرزوق يمثّل ما يمكن تسميته الرأي «المعتدل»، وهو في الحقيقة الرأي العقلاني، وسامي أبو زهري يمثّل ما يمكن تسميته الرأي «القًصوي»، وهو في حقيقته رأي لا عقلاني، بل عقائدي.
فحيث عبّر أبو مرزوق عن اعتذار ضمني إزاء أهل غزة لِما لحق بهم منذ عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023، وذلك بكلمات ذكّرتنا بالأسف الذي أبداه أمين عام «حزب الله» اللبناني، حسن نصرالله، إثر العدوان الصهيوني على لبنان وحزبه في صيف 2006 (أنظر ««لو كنتُ أعلم» موسى أبو مرزوق»، «القدس العربي» 25/2/2025) فقد تخصّص أبو زهري في مزايدة قصوية يزيد من بؤسها أنه يتفوّه بها من الخارج ولا يمارسها هو نفسه، كما في دعوته يوم 31 آذار/ مارس الماضي «كلّ من يستطيع حمل السلاح في كلّ مكان بالعالم» إلى أن يتحرّك، مضيفاً «لا تدَّخروا عبوّة أو رصاصة أو سكّيناً أو حجراً، ليخرج الجميع عن صمته»… (أنظر «غزة وحكمة سليمان»، القدس العربي، 1/4/2025).
وقد أثار أبو زهري موجة سخط عارمة ضده وقيادة «حماس» داخل القطاع، التي بدا حتى الآن أن الجناح القَصوي هو الذي يهيمن عليها، من جرّاء ما أتى على لسانه في مقابلة أجرتها معه قناة «التناصح» الفضائية وبثّتها قبل أيام قليلة (وقد باتت متوفرة على مواقع عديدة) حيث قال أبو زهري، متحدثاً عن الكارثة التي حلّت بغزة، أنه كان يتوقع أن يكون ردّ الفعل الصهيوني على «طوفان الأقصى» على ما جاء عليه، بل «نحن اليوم أكثر يقينا بصوابية المعركة حين نجحنا، نحن وشعبنا، أن نصمد خمسة عشر شهراً»، مضيفاً أن «البيت الذي هُدم سيُعاد بناؤه والشهيد أرحام نسائنا ستلد أضعاف أضعاف ما استُشهد».
إن قيادة لا تعير قيمة لحياة من تدّعي قيادتهم، بل وتمثيلهم، ليست جديرة، إذ إن وثوق تلاحم القيادة مع شعبها رهنٌ بثقة الشعب بأنها حريصة على أرواحه في المقام الأول
بل أكّد أبو زهري أن عدد المواليد في غزة يساوي عدد الشهداء الذي سقطوا في هذه المعركة». قال إن «ما لا يقل عن خمسين ألف مولود ولدوا أثناء المعركة في غزة» وهو تقديرٌ لم يُشر إلى مصدره بما يثير الشك في أنه رقمٌ ذكره لأنه يضاهي عدد الوفيات من جراء القصف وفق تقارير الشؤون الصحية في القطاع، بينما يتجاهل نسبة الوفيات الهائلة التي تصيب أطفال غزة، لا سيما في ظروف المجاعة وتغييب أبسط الخدمات الصحية. ثم قال أبو زهري إنه من الخطأ حساب نتائج المعركة بحسابات «مادية»، مضيفاً «لو حُسبت حسابات مادية… ما كنّا لنستطيع أن نصمد».
وتابع أبو زهري متحدّثاً عن «المسلمين يلّي أعدادهم تتضاعف أضعاف كثيرة بسبب ما يجري في غزة» في تصريح أكثر اعتباطية بعد من تقديره لعدد المواليد في القطاع، ليخلص إلى أن «الذي حدث في غزة مش قصة مئة بيت انهدم وألف شهيد استُشهد، القصة أكبر من ذلك بكثير، غزة اليوم أعطت درسا ليس للاحتلال، أعطت درسا للأمة ودرسا للعالم، تداعياته وثماره ونتائجه كبيرة جداً، أما البيت يُعاد بناؤه والشهيد إن شاء الله عشرات الأضعاف ننتج غيرهم».
بلا مواربة، والحق لا بدّ أن يُقال، إن كلام أبو زهري لكلام ينمّ عن استرخاص مذهل لحياة عشرات الآلاف من أهل غزة، بل مئات الآلاف عندما يتجلّى حساب الضحايا الكامل بين مباشرة وغير مباشرة بعد توقف هذا الكابوس الذي لم يعان منه شعب بالوحشية والسادية المعتمدتين غير العفويتين، اللتين تمارسهما قوات الاحتلال الصهيوني. وهذا الاستخفاف بحياة الناس، على غرار الشعار الذي تباهى به مقاتلو «حماس» داخل القطاع عند تبادل الأسرى قبل ثلاثة أشهر: « نحن الطوفان… نحن اليوم التالي» (أنظر « نحن الطوفان… نحن اليوم التالي»، القدس العربي، 11/2/2025) إنما لا ينفصم عن المنطق الغيبي الديني لدى بعض «حماس» وسواها من قوى التزمّت الديني التي تخلط بين تفسيراتها للكتابات المقدسة وبين قصد هذه الكتابات، وتعتبر بالتالي أنه طالما ينتهي الأمر بالشهداء في جنة الخلد، فلا بأس من تكاثرهم مهما بلغت أعدادهم، على أن تعوّض عنهم «أرحام نسائنا». وحبّذا لو واجه أبو زهري بهذا الكلام أُمّهات غزّة اللواتي قتلت الهمجية الصهيونية أطفالهنّ، لأدرك كم أن كلامه لا يُطاق.
إن قيادة لا تعير قيمة لحياة من تدّعي قيادتهم، بل وتمثيلهم، ليست جديرة، إذ إن وثوق تلاحم القيادة مع شعبها رهنٌ بثقة الشعب بأنها حريصة على أرواحه في المقام الأول، بل إن ثقة الجنود بضباطهم رهنٌ بمدى الاهتمام الذي يعيره الضباط لعدم تعريض الجنود للموت حينما يمكن تدارك ذلك. والحال أن سرّاً من أسرار تفوّق الدولة الصهيونية العسكري إنما هو القيمة العليا التي تعيرها لجنودها الإسرائيليين اليهود بما يجعلها تدخل في متاجرة مهينة للجانب العربي، مثلما حدث في عام 2011 حينما أفرجت عن 1026 سجيناً فلسطينياً، بينهم يحيى السنوار، لقاء جندي إسرائيلي واحد هو جلعاد شاليط. فإن القول إن الذين «يحبون الموت» سوف يتغلبون على الذين «يحبون الحياة»، كما جاء في رسالة خالد بن الوليد لملك فارس، إنما هو منافٍ للمنطق البسيط حينما يُطبّق ليس على المقاتلين وحسب، بل يطبقّه القادة على الشعب الذي يقودون.
كاتب وأكاديمي من لبنان