مقالات

هل حان وقت «تطبيع» العلاقات العربية مع غزة؟

هل حان وقت «تطبيع» العلاقات العربية مع غزة؟

إبراهيم نوار

يخطئ من يعتقد أن إسرائيل تستطيع تحقيق «سلام» بالحرب في غزة، أو أنها تستطيع استنزاف المقاومة بواسطة صفقات جزئية. السلام في غزة لن يتحقق من دون اتفاق سياسي، يؤكد وحدة القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في وطن آمن مستقل يتمتع بالسيادة. وطالما أن حكومة نتنياهو تتبع طريق الحرب والمراوغة، فلا بد أن تتوفر للفلسطينيين كل وسائل الضغط العسكري والدبلوماسي، خصوصا بعد أن دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الخط. هذه المرة تدخل للضغط على إسرائيل من أجل السماح بوصول الإمدادات الإنسانية الأساسية، على وجه السرعة إلى غزة. وطبقا لتقرير نشرته صحيفة «إسرائيل اليوم» فإن هذا التدخل كان استجابة لشرط وضعته «حماس» لإطلاق سراح المحتجز الأمريكي عيدان ألكسندر. وكان ترامب قد كرر في أكثر من مناسبة قلقه من حرب التجويع المفروضة على الفلسطينيين، كما شاركه في ذلك عدد من قيادات الدول الأوروبية، ومنهم ماكرون في فرنسا، وستارمر في بريطانيا، وبيدرو سانشيز في إسبانيا وغيرهم. هذا يؤكد أن الضغط يمكن أن يثمر إجراءات إيجابية لتحسين ظروف الحياة اليومية للفلسطينيين في قطاع غزة ( ضد حرب التجويع)، أو في الضفة الغربية (ضد اعتداءات المستوطنين اليومية). حكومة إسرائيل وافقت على دخول الإمدادات مؤقتا عن طريق منظمات الأمم المتحدة، إلى حين الانتهاء من استعدادات تشغيل منظومة التوزيع التي يديرها الجيش الإسرائيلي.

مصداقية المشروع العربي

الضغوط على إسرائيل من الخارج يجب أن لا تقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا. ومن غير المقبول أخلاقيا وسياسيا أن تستمر علاقات الدول العربية مع إسرائيل على النمط الذي تريده الدولة الصهيونية. ومن غير المقبول أخلاقيا وسياسيا ترك قطاع غزة وحيدا للوحشية العسكرية الإسرائيلية، تفعل فيه ما تشاء، وسط فراغ إداري وسياسي يتسع يوما بعد يوم نتيجة الحملات العسكرية الإسرائيلية، التي تستهدف إبادة الفلسطينيين، واحتلال قطاع غزة لفترة طويلة. هذا لا يعني تدخل الدول العربية المعنية بتحقيق السلام في غزة عسكريا ضد إسرائيل، ولكن أن تبلور مشروعا مستقلا لإحلال الهدوء والسلام، بطريق آخر غير طريق «القوة» الذي يؤمن به نتنياهو. لا بد من وجود بديل للطريق الإسرائيلي. إن الاكتفاء بإدانة الإجراءات الإسرائيلية في قطاع غزة مثل حرب التجويع وقتل المدنيين وتهجيرهم لا يكفي لإزالة الأذى المادي الذي يتعرض له الفلسطينيون، كما أنه لا يكفي لوقف الإجراءات العدوانية الإسرائيلية.

من غير المقبول أخلاقيا وسياسيا ترك قطاع غزة وحيدا للوحشية العسكرية الإسرائيلية، تفعل فيه ما تشاء، وسط فراغ إداري وسياسي يتسع يوما بعد يوم نتيجة الحملات العسكرية الإسرائيلية

وكانت حماس قد أعلنت في أكثر من مناسبة استعدادها للتخلي عن إدارة قطاع غزة. كما أعلنت استعدادها تسليم المحتجزين لديها كلهم مقابل وقف الحرب، على أساس اتفاق سياسي مضمون دوليا، للبدء في إجراءات إقامة دولة فلسطينية، لكن خطاب حماس السياسي لا يجد القنوات والأدوات التي تحمله وتروجه وتحوله إلى سياسة. حماس ليست دولة، ولا توجد لها أجهزة التمثيل الدبلوماسي القادرة على تحويل صوتها إلى فعل على الأرض. ومن واجب الدول العربية أن تسهم في توفير القنوات والوسائل التي تساعد على تحقيق ذلك، خصوصا أن إسرائيل تتعمد تشويه خطابها السياسي، بدءا من وصفها بأنها «منظمة إرهابية»، إلى اتهامها بتعذيب المختطفين. الدبلوماسية العربية مطالبة أيضا بالعمل، من خلال الحوار، على ترشيد الخطاب السياسي للمقاومة الفلسطينية ككل، حتى يتناغم مع خطاب عربي مشترك، بحيث تكون هناك دبلوماسية عربية واضحة المعالم تجاه القضية الفلسطينية ومستقبلها.
لكن القيام بهذا الدور يتطلب «تطبيع» العلاقات العربية مع قطاع غزة، حتى الآن لا تستطيع الدول العربية إدخال تبرعاتها ومساعداتها الإنسانية إلى غزة، ولا تستطيع إرسال متطوعين للعمل في منظمات الإغاثة الإنسانية الصامدة. وإذا كانت هناك دول عربية تعتقد أن «تطبيع» العلاقات مع إسرائيل يشكل شرطا ضروريا من شروط إحلال السلام، فكيف يغيب عنها أن «تطبيع» العلاقات مع قطاع غزة هو الطرف الآخر في معادلة السلام المنشود؛ فلا سلام مع استمرار العدوان، ولا دور للدول العربية في قطاع غزة مع حالة القطيعة الطوعية أو الإجبارية الحالية مع المجتمع الفلسطيني نفسه في الداخل. إن تحقيق المصداقية لدور عربي في قطاع غزة يتطلب أولا وقبل كل شيء وجود هذا الدور على الأرض. ونقول دائما في السياسة أن المصداقية هي الوجود المرئي «credibility is visibility» وهو مبدأ ثابت من مبادئ إدارة الدبلوماسية الناجحة. فإذا عجزت دبلوماسية المشروع العربي لغزة عن تحقيق وجود لنفسها على الأرض، فإن هذا المشروع يخسر مصداقيته في نظر الأطراف كلها. وكانت حماس قد اقترحت إيجاد بديل لها لإدارة قطاع غزة، في إطار مشروع عربي، يتمثل في تكوين لجنة إسناد مجتمعي، تقوم بدور إداري تنفيذي تحت إشراف عربي ودولي، في مجالات توزيع المساعدات وحفظ الأمن وإدارة المرافق والبنية الأساسية، والمشاركة في عملية إعادة البناء، لإزالة أي شبهة في تدخلها في شؤون قطاع غزة، حتى يتم تشكيل حكومة فلسطينية منتخبة. المشروع الذي طرحته حماس كان يتضمن إنهاء الحرب والحصار، والانسحاب العسكري الإسرائيلي، وإطلاق سراح جميع المحتجزين، ووجود قوة مراقبة دولية – عربية في غزة، إضافة إلى لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة القطاع. ومن المعروف أن إسرائيل أعلنت رفضها عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة غزة بعد انتهاء الحرب، بحجة الفساد وعدم القدرة على قمع ما تسميه «الإرهاب»، لكنها فشلت في إقامة سلطة بديلة لحماس من أعوانها، ومع ذلك فإن مشروع حماس لم يتحول إلى مشروع عربي تتبناه الدول العربية المعنية، خصوصا مصر والأردن والإمارات والسعودية. ومع رفض حكومة نتنياهو كل اقتراحات إنهاء الحرب تماما، وإقامة ترتيبات ضمن جدول زمني تقود إلى إقامة دولة فلسطينية، فإن إدارة الحرب في غزة اعتمدت على استمرار الاعتداءات والعمل على عقد صفقات جزئية، يتم خلالها تبادل أعداد من أسرى الحرب لدى الطرفين. ومع أن اتفاق يناير الماضي كان ينص على أن تترافق مرحلته الثانية مع بدء مفاوضات لإنهاء الحرب، فإن إسرائيل تهربت منه بعد أن تسلمت 33 من المحتجزين لدى حماس، ثم فرضت حظرا على دخول الإمدادات الإنسانية في 2 مارس، واستأنفت الاعتداءات على غزة في 18 من الشهر نفسه. وفي 17 من الشهر الحالي أعلنت بدء عملية اجتياح عسكري شامل لقطاع غزة، هدفها الأول هو تهجير أكثر من مليون فلسطيني وضمان توطينهم خارج القطاع.

مشروع نتنياهو

يستهدف نتنياهو احتلال قطاع غزة بالكامل. وتقوم خمس فرق من الجيش الإسرائيلي بعمليات توغل في كل أنحاء قطاع غزة منذ يوم السبت الماضي، تهدف لاحتلال القطاع، وإقامة 4 مراكز (كانتونات منفصلة) للتجمعات السكانية، وتهجير سكان الشمال إلى الجنوب، وفصل هذه التجمعات عن بعضها بمناطق عسكرية، وعدم السماح للسكان بالتنقل بين منطقة وأخرى، وإدارة عمليات توزيع الإمدادات الإنسانية الأساسية داخل التجمعات بالتعاون مع مؤسسة غزة للإغاثة (GHF) ومكتب تنسيق الأنشطة الحكومية في الأرض المحتلة. وتتضمن مهام الجيش إدارة عملية غسيل مخ وإعادة تربية للسكان، بهدف إزالة أي تأثير لحماس عليهم، أو ما يطلق عليه عملية
«de-Hamasification»، بل إن بعض الخطط في هذا السياق تمضي إلى استهداف اغتيال الشعور بالهوية الفلسطينية تماما «de-Palestinianization» وترسيخ فكرة «الشعور بالذنب» تجاه الإسرائيليين!
وقد نشرت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية يوم الأحد الماضي، خريطة توضح خطوط تقسيم قطاع غزة، طبقا لمشروع نتنياهو، الذي يستغرق تنفيذه فترة تتراوح بين 5 إلى عشر سنوات. خلال تلك الفترة تستهدف إسرائيل تدمير كل شبكة الأنفاق التي شقتها حماس تحت الأرض، وإزالة كل المباني والمنشآت فوق الأرض. ويقدر الخبراء لديهم أن ما تم تدميره يعادل 25 في المئة فقط، ومن ثم من الضروري تدمير الـ 75 في المئة المتبقية. ومن المفترض أن يبدأ الجيش فورا المرحلة الأولى من تدمير الأنفاق والمنشآت في المنطقة الشمالية العسكرية من قطاع غزة، التي تقع شمال مدينة غزة وتشمل بيت حانون، ولاهيا، وجباليا وتمتد الى شاطئ غزة. وفي هذا السياق نذكر أن المناطق العسكرية التي ستفصل «الكانتونات» داخل قطاع غزة تشمل منطقة عسكرية حول محور «نتساريم»، جنوب المنطقة السكنية المُؤمَّنَة في مدينة غزة، ثم محور عسكري جديد «كيسوفيم» يفصل دير البلح عن خان يونس، ثم محور «موراغ»، يفصل رفح عن خانيونس. وأخيرا محور فيلادلفيا الذي يفصل قطاع غزة عن مصر. ومن الضروري أن تمارس الدول العربية التي تربطها بإسرائيل علاقات رسمية، إضافة إلى المملكة السعودية، دورا في الضغط المباشر وغير المباشر على إسرائيل، بالتنسيق مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية والمنظمات الدولية والقوى الرافضة للحرب في إسرائيل والعالم، من أجل بناء علاقات طبيعية مع قطاع غزة.
كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب