
الثلاثاء على الأريكة مع الخميس

توفيق قريرة
قد يبدو لك العنوان غريبا وهو كذلك، غير أنّه مثال يستهوي اللسانيّين والمناطقة، ليبيّنوا به أنّه لا يكفي الكلامَ حتى يكون مقبولا، أن يكون سليما من الأخطاء، وأنّك إن تكلمت بلا لحن ولا خطأ فذلك ليس سببا كافيا في أن يكون الكلام مقبولا مثلما يعتقده حراس اللغة الأشاوس والحريصون على سلامتها من اللحن، لن يفهم منك إن لم تتكلم كلاما يخضع لنظام الدلالة ولمنطق العلاقات بين الكلمات في الجمل.
(الثلاثاء على الأريكة مع الخميس) عبارة اقتبسناها من مثال استعمله الفيلسوف البريطاني غلبرت رايل (1900-1976) Gilbert Ryle من قوله: Thursday in bed with Friday (أي الخميس في الفراش مع الجمعة) لبيان ما يسميه الخطأ المقوليMistake Category، ويعني أن يسند المتكلم شيئا إلى مقولة لا تناسبها: فالخميس والجمعة في مثاله هما يومان وليسا من البشر، حتى نجعلهما يتقاسمان الفراش مثلما يفعل البشر. وقياسا عليه فإنّ عبارة العنوان هي أيضا واقعة في هذا الخطأ المقولي، فحتى يتقاسم الثلاثاء والخميس الأريكة عليهما أن يكونا بشرا، أو ـ على أدنى تقدير ـ أن يكونا قطتين على أريكة في حديقة عامة. إنّ الخطأ المقولي ليس أن تنسب إلى مقولة ما قد لا يكون منها (كأن تقول ليس الأسد أشجع مني) بل من المحال منطقيا أن يكون منها مطلقا.
الخطأ المقولي هو، نسبة شيء إلى فئة أو مقولة لا ينتمي إليها أصلاً، أي استخدام مفاهيم أو صفات بطريقة غير مناسبة، لأنها تُسند إلى أشياء لا تنتمي إلى «المقولة» نفسها المنطقية أو التصنيف المفهومي. ومن أشهر أمثلة رايل لتوضيح الخطأ المقولي، المثال الآتي: تخيّل أن زائرا يأتي إلى جامعة أكسفورد، ويُريه أحدهم الكليات والمكتبات والمختبرات. ثم يقول الزائر: «حسنًا، رأيت الكليات والمكتبات… لكن متى سأرى الجامعة؟»، في هذا المثال، ارتكب الزائر خطأ مقوليا، لأنّه افترض أنّ الجامعة كيان مادّي من المقولة نفسها، التي تنتمي إليها الكليات أو المباني، في حين أنّ «الجامعة» هي تنظيم أو نظام يشمل هذه العناصر، وليست شيئا يُرى بمعزل عنها. تندرج فكرة رايل في إطار بيان خطأ في نظرية ديكارت في العقل حين اعتبره شيئا مثلما اعتبر الجسد شيئا. فقد رأى أن ديكارت ارتكب خطأ مقوليا عندما اعتبر أنّ العقل كيان مستقل ومنفصل عن الجسد، وأنه «شيء» غير مادّي موجود إلى جانب الجسد المادي. واعتبر رايل أن العقل ليس شيئا متميزا عن الجسد، بل هو طريقة معينة في تصرّف الإنسان وسلوكه، وليس كيانا ميتافيزيقيا مستقلًا.
الخطأ المقولي يمكن أن نجد له نظيرا في اللسانيات، من خلال تمييز نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) بين النحوية (grammaticality) والمقبولية (acceptability)
وضرب مثالًا شهيرا لذلك هو: (تنام الأفكار الخضراء عديمة اللون في انزعاج) Colorless green ideas sleep furiously فهذه جملة سليمة نحويا، لكنها غير مقبولة دلاليا. ولو عدنا إلى مثالنا (الثلاثاء على الأريكة مع الخميس) فإنها أيضا جملة سليمة نحويا ولكنّها غير مقبولة تداوليا. غير أنّ المغرمين بتخريج هذا الكلام استعاريّا قد يذهبون إلى أنّها استعارات ممكنة أو هي مقبولة من وجهة نظر مجازية. الردّ على هذا الزعم يكون من جهتين أولاهما، أنّ الكلام الذي يتعامل معه النحويّون، أو اللسانيون أو حتى المناطقة في سياق قيمة الصدق هو كلام لا استعارية فيه ولا مجاز. فالأصل في بناء المثال اللغوي الأساسي هو الكلام الحقيقي الذي يستقيم مع الحسّ المشترك. تضاف إلى ذلك عناصر إدراكية هي التي تجعل الكلام غير مقبول حتى استعاريّا، فيوما «الثلاثاء» و»الخميس» ينتميان إلى فئة مفهومية مجردة: الزمن بينما تنتمي الأريكة» إلى فئة الأشياء المادية. وتنتمي إلى مخطط مكاني (image schema of support). والخلط هنا هو إسقاط مخطط مكاني مادّي على كيانات زمنية غير مادية، وهذا ما يُعرف في اللسانيات العرفانية بالخطأ في الإسقاط المجازي (metaphorical mapping error). ويعني أنّ إسقاط مفهوم الزمان على الإنسان الجالس لا يستقيم لأنّه لا محصّل إدراكيا فيه، فلا معنى أن يجلس يومان على الأريكة، بينما لا تفعل بقية الأيام ذلك، وحتى لو تفلسفنا في القول إنّ الجلوس يعنى استطالة الأوقات فلا معنى لالتقاء يومين معا في حيز مكانيّ واحد، وبهذا فإنّ الخطأ المقولي هو خطأ إدراكي يعطّل عمل الاستعارة، وليس كل قول بذلك يقبل أن يحمل على الاستعارية.
وفقاً لنظرية الاستعارة المفهومية عند لايكوف وجونسون (Lakoff & Johnson)، فإن الاستعارة تنجح عندما تكون هناك إسقاطات ممنهجة ومنسجمة بين ميدانين عرفانيّين: ميدان مصدر (Source Domain) وميدان هدف (Target Domain).
على سبيل المثال فإنّ الوقت وهو الجالس على الأريكة هنا (هو الميدان الهدف) يُفهم في ضوء الإنسان الجالس على الأريكة (وهو الميدان المصدر)، وهذا ميدان ملموس أكثر وقابل للتعامل مع متصورات مثل، الجلوس والاتكاء وغيرهما. وفشل استعارة «الثلاثاء على الأريكة مع الخميس» نابع من عسر تجسيد أيام الأسبوع في هيئة الجالس، لأنها مفاهيم زمنية مجردة باتت كما لو أنها كائنات مادية تجلس على أريكة. فالميدان الهدف: الزمن (أيام الأسبوع) والميدان المصدر (التفاعل الإنساني/الجلوس في الفضاء المادي) لا يمكن إسقاط أحدهما على الآخر إدراكيا لجملة من الأسباب: أوّلا لغياب الاتفاق الثقافي، أو التصوري فلا يوجد في وعينا الجماعي، أو في التجربة البشرية اليومية مخطط إدراكي يجعل من «الثلاثاء» و»الخميس» شخصيتين مستقلتين قادرتين على التفاعل كما يتفاعل البشر (على أريكة مثلاً). لا يوجد «سيناريو» مألوف يمكن إسقاطه هنا، فالأيام تتتابع، ولكنها لا تلتقي وحتى في التتابع لا توجد علاقة بين يومين لا يتتابعان هما الثلاثاء والخميس.
وثانيا ينعدم التجسيد المناسب فالزمن يُجَسَّد في الغالب من خلال حركات، سير، تدفق، أو خطية (مثل: المستقبل أمامنا، الماضي خلفنا). أمّا تخيّل «أيام الأسبوع» ككائنات جالسة فإنّه لا يجد له دعماً في خطاطاتنا التجسيدية، التي تبنى على تجاربنا الجسدية في العالم. لا يجلس الزمن ولا يتوقف ولا تصطحب الأيام أخواتها لتجلس معا على أريكة. إذ لا معنى لهذا الفعل الاستعاريّ حتى لو حدث في تصوّر الإنسان للزمان وفي استفادته من التجسيد. السبب الثالث في فشل هذا الإسقاط الاستعاري هو عدم الانسجام البنيوي في الإسقاط المعرفي، إذ لا يوجد تطابق منهجي بين خصائص أيام الأسبوع وخصائص كائنات مادية تجلس وتتفاعل. فقولنا «الثلاثاء على الأريكة مع الخميس» لا يقدّم إسقاطاً منتظماً لمعنى أو تجربة معيشة، بل يبدو اعتباطيا. السبب الرابع هو العبث الدلالي فالمجاز المنتج من هذه العبارة يقع في خانة ما يمكن تسميته بـ»العبث اللساني» أو اللعب اللغوي غير المؤسَّس على مخطط مفهومي معروف، وبالتالي فإن القول غير المقبول، غير قابل للتأويل الاستعاري الطبيعي، على عكس استعارات مثل «الزمن يمشي» أو «الحياة قطار».
لكن قد تنجح هذه الاستعارة ضمن نص شعري سريالي، أو خطاب تجريبي فني حيث القصد ليس بناء مجاز مألوف، بل خلق صدمة دلالية أو مفارقة حسّية. لكن عرفانيًا، من منظور فهم الناس العاديين للعالم، ستفشل في نقل معنى واضح أو تجربة مشتركة. وهنا يقف المبدع على طرفي نقيض مع قارئ يريد أن يبني استعارة ناجحة تصوريا.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية.