ثقافة وفنون

انحدار الإبداع في السينما الحديثة: بين التكرار وفقدان العمق

انحدار الإبداع في السينما الحديثة: بين التكرار وفقدان العمق

زيد خلدون جميل

انحدار الإبداع في الأعمال السينمائية

لا يلاحظ المرء النسبة الكبيرة من الأفلام الجديدة التي هي في الحقيقة إعادة لأفلام سابقة، فلدينا مثلا سلسلة أفلام «روكي» التي تكونت من تسعة أجزاء، مع العلم أن فيلم «روكي» Rocky الأول الذي عرض عام 1976 كان في الأصل مقتبسا من فيلم شهير للممثل بول نيومان بعنوان «أحدهم في الأعلى يحبني» Somebody Up There Likes Me وعرض عام 1956.
وهناك سلسلة أفلام «مهمة مستحيلة» Mission Impossible التي تكونت من ثمانية أجزاء كان آخرها فيلم يعرض هذا العام. ولكن الأمر أحيانا أقل وضوحا من ذلك، فبعد نجاح سلسلة أفلام «صائدي الأشباح» Ghost Busters قررت شركات السينما تغيير بعض التفاصيل البسيطة لإنتاج السلسلة مرة أخرى، ولكن تحت إسم آخر. وكانت النتيجة سلسلة أفلام «رجال في ملابس سوداء» Men In Black ثم عرضت أجزاء جديدة لسلسلة الأفلام الأصلية في الوقت نفسه.
وهناك طرق أخرى للإعادة مثل اقتباس فكرة أفلام شهيرة سابقة وعرضها بأسماء جديدة، والاقتباس من مجلات الأطفال، ولذلك ظهرت أفلام الأبطال الخارقين بأجزائها العديدة، وأسمائها المختلفة، على الرغم من التشابه الهائل في قصصها. ومن طرق الاقتباس كذلك تلك التي بدأت مع صناعة السينما منذ نشوئها، وهي إعادة تشكيل فكرة فيلم شهير وقديم في إطار الحياة الحالية مثل فيلم «اثنا عشر رجلا غاضبا» Twelve Angry Men الذي اقتبست فكرته في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية.
ما أن ينجح الفيلم حتى تبدأ الأجزاء المتلاحقة، التي لا تعرض أي جديد، بل إن المشاهدين يعرفون مقدما ماذا سيشاهدون. ويدل هذا الاتجاه بوضوح على انعدام الإبداع لدى المسؤولين عن صناعة السينما، أو أن هناك ما يمنعهم عن الاستعانة بما هو جديد في الإبداع. ولكن ما هي الأسباب التي جعلت صناعة السينما في هذا الموقف السيئ، لاسيما أن عدد المشاهدين في تناقص في مختلف أنحاء العالم. ومهما كانت جنسية الفيلم، حيث يشعر المشاهدون بالاستياء والملل في هذه الأفلام المكررة، والأجزاء المتتالية، سواء أكان الفيلم فكاهيا، أم خياليا، أم رومانسيا، أم أي نوع آخر.
يفسر أغلب النقاد السبب، وهو خوف شركات الإنتاج السينمائي من المخاطرة التي قد تؤدي إلى فشل الفيلم، فمعدل تكلفة صناعة الفيلم ذي الممثلين المشهورين حوالي خمسة وستين مليون دولار، وإذا أضفنا تكاليف التوزيع والدعاية فترتفع التكلفة إلى مئة مليون دولار. ولذلك تمثل الأجزاء المتتالية لفيلم شهير نجاحا مضمونا، حتى إذا كان ذلك يعني حصر التركيز على قطاعات معينة من المشاهدين، حيث إن معرفة المشاهدين بالموضوع تجعل الفيلم جذابا لهواة هذا النوع فحسب، ومع ذلك فإن النجاح الكبير للفيلم غير مضمون، ففيلم «بياض الثلج» Snow White الذي عرض هذا العام لم ينل نجاحا كبيرا، على الرغم من أن كلفته تجاوزت 250 مليون دولار، والنجاح الهائل للفيلم الأصلي الذي عرض عام 1937. وكذلك تكرار إنتاج فيلم «الاستيلاء على قطار بيلهام واحد اثنين ثلاثة» Taking On Pelham One Two Three الذي عرض بنجاح كبير عام 1974، حيث لم يكن النجاح حليف النسخ الجديدة، على الرغم من ظهور ممثلين شهيرين فيها، ولكن السبب في هذه الحالة ربما كان معروفا، فكلا الفيلمين من العلامات الفارقة في السينما الأمريكية، كما أنهما مثلا مرحلتين تاريخيتين من التاريخ الاجتماعي، ما أضاف سببا آخر للجمهور لمشاهدتهما، حيث يرى المشاهد فترة من تاريخ العالم بكل ظروفه. وبالتالي، فإن إضافة بعض الأفكار الحديثة للفيلم تفقده نكهته وتجعله غريبا عن الواقع. ولهذا السبب، فإن إعادة إنتاج فيلم «ذهب مع الريح» Gone With The Wind الذي عرض عام 1939 مستحيلة من الناحية العملية، حيث يمثل الفيلم السينما العالمية في أفضل فترة لها على الإطلاق كما أن أداء فيفيان لي، لدور «سكارلت» قد ترسخ في ذهن المشاهد ومن المستحيل لأي ممثلة أخرى أن تحل محلها، وهناك أسباب أخرى لانعدام الإبداع في السينما الحديثة.

انعدام المنافسة
قد يظن المرء أن ما يمنع تدهور مستوى الإبداع في الأعمال السينمائية، المنافسة الشديدة بين شركات الأفلام السينمائية العديدة. ولكن الحقيقة للأسف محزنة، فإذا أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية كمثال، لأنها الدولة الأكثر شهرة وتأثيرا في صناعة السينما، فسنجد أن عدد الشركات أقل بكثير مما يظنه المشاهدون، فمثلا قد تبدو شركات «بكسار» و»دريموركس» و»تَشستون» و»مارفل» و»لوكاسفيلم» كشركات متنافسة، ولكنها في الحقيقة شركة واحدة من الناحية العملية، حيث تمتلكها جميعا شركة «وولت ديزني»، ولذلك فإن أكثر من ثمانين في المئة من أرباح الأفلام في الولايات المتحدة تذهب إلى خمس شركات فقط.

التأثير السياسي
تتعرض شركات السينما في مختلف أنحاء العالم إلى تأثير الحكومات المحلية والأجنبية بأشكال مختلفة، فقد تقرر حكومة ما حذف مشاهد من فيلم ما. وقد تعترض حكومة ما، على طريقة عرض الفيلم لمؤسساتها، أو شخصيات كبيرة فيها، أو الظواهر الاجتماعية والاقتصادية فيها. وتزداد قوة تلك الحكومة في حالة اشتراكها بطريقة ما في عملية التمويل، أو الإخراج وحتى التأليف. وللحكومات أحيانا قنوات مخفية، أو غير مباشرة للتأثير على قصص الأفلام.

دور الذكاء الاصطناعي في التأليف
الغريب في الأمر أن التطور السريع في تقنية الذكاء الاصطناعي ساهم في الحد من الإبداع في صناعة السينما لعدة أسباب. وأولها استخدامه في كتابة قصة الفيلم، فالذكاء الاصطناعي لا يبتكر، بل يعتمد في تحليله على تجارب سينمائية سابقة، ما يجعل اقتراحاته مشابهة لأعمال سابقة وبالتالي عديمة الإبداع ومملة، وتفتقر إلى العمق والفكرة الجديدة والمفاجأة، التي يتميز بها إنتاج المؤلف البشري. ويضاف إلى ذلك أن الذكاء الاصطناعي يعيد جوانب التحيز الذي كان موجودا في الأعمال السينمائية السابقة. وقد جرت دراسة بسيطة على 293 مراهقا حيث طلب من كل منهم كتابة قصة وسمح لثلثيهم باستعمال الذكاء الاصطناعي. وكانت النتيجة أن الطلاب الذين استعانوا بالذكاء الاصطناعي أنهوا كتابة قصصهم أسرع، ولكن الآخرين الذين لم يستعملونه نجحوا في كتابة القصص الأجمل والأكثر تأثيرا وعمقا، أي القصص الأكثر إبداعا.

دور الذكاء الاصطناعي في الإخراج
ما يزيد الطين بلة أن استعمال الذكاء الاصطناعي في الإخراج جعل عملية الإخراج أبسط، لاسيما أفلام الخيال العلمي، إن صحت هذه التسمية، والخيالية. وقد يسهل هذا عمل الممثلين والمخرجين، ولكنه يشجع شركات صناعة الأفلام السينمائية على إنتاج أفلام تمتاز بسطحيتها التي تصل إلى درجة العقلية الطفولية في الكثير من الأحيان، حتى إن بعض المشاهد تبدو وكأنها من لعبة فيديو، إذ لا يستطيع التعبير عن المشاعر الإنسانية بشكل كاف ومسايرة آخر التغييرات في الثقافة والمجتمع. ويضاف إلى ذلك تشابه هذه الأفلام الواضح، أي افتقادها التنوع. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأفلام تتمتع بميزة كثرتها في الإنتاج وتصاحبها أفضل دعاية، ما يسبب تشبعا في سوق الأفلام في العالم وجذب الجمهور من الأفلام التي تتميز بالإبداع والعمق الثقافي والاجتماعي.

تأثير قلة الإبداع في السينما على الجمهور
هذا الانحدار الواضح في الإبداع والعمق في صناعة السينما يؤثر على الجمهور بشكل سلبي، حيث يمثل تأثيرا لا إراديا على عقل المشاهد ويجعله أقل إبداعا بدوره، بالإضافة إلى تأثير هذا على نظرته إلى ما حوله والعالم بشكل عام وحتى تصرفاته. ويمثل هذا خطرا على مستوى ثقافة المجتمع بشكل عام.

باحث ومؤرخ من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب