“تأجيل مؤتمر نيويورك: ضياع الفرصة أم إعادة تشكيل الدبلوماسية؟”

“تأجيل مؤتمر نيويورك: ضياع الفرصة أم إعادة تشكيل الدبلوماسية؟”
بقلم رئيس التحرير
في لحظة بالغة الحساسية من تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، جاء إعلان تأجيل مؤتمر نيويورك، الذي كان من المزمع عقده برعاية فرنسية–سعودية، كصفعة سياسية لكل من راهن على تحرك دولي منسق لوقف العدوان على غزة وإحياء المسار السياسي للقضية الفلسطينية. وبينما بدا المؤتمر بوابة ممكنة لتشكيل مظلة دولية تضغط باتجاه وقف الحرب وتثبيت معادلة سياسية جديدة، فإن التأجيل يفتح الباب واسعاً أمام جملة من التداعيات المعقدة، على المستويات الدولية والإقليمية والفلسطينية.
أولاً: الغياب الدولي وتآكل المصداقية
شكل المؤتمر محاولة طموحة لكسر حالة الشلل في مجلس الأمن الدولي، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية في قلب الأجندة العالمية، وسط صعود أزمات أخرى (أوكرانيا، تايوان، البحر الأحمر). لكن تأجيله يؤكد أن المجتمع الدولي لا يزال عاجزاً عن إنتاج مبادرات حاسمة، وأن الإرادة السياسية الغربية ما زالت مرتبكة في مقاربة الملف الفلسطيني، خصوصاً في ظل الضغوط الإسرائيلية، والانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، والغموض في الموقف الأميركي.
هذا التأجيل لا يُقرأ فقط كموقف دبلوماسي عابر، بل يعمّق من تآكل ثقة الفلسطينيين بالرعاية الدولية، ويكرّس شعوراً متزايداً بأن العالم يتواطأ بصمته، أو على الأقل بعجزه، أمام حرب تستنزف غزة وشعبها دون أفق.
ثانياً: الوقت الضائع لصالح إسرائيل
عملياً، يخدم التأجيل الآلة العسكرية الإسرائيلية التي ما زالت تمضي في استراتيجيتها التدميرية في القطاع، مستفيدة من الوقت المفتوح والمناخ الدولي الضعيف. إذ تُفسر تل أبيب هذا الفراغ الدبلوماسي على أنه فرصة إضافية لإكمال “أهدافها العسكرية”، في ظل غياب سقف زمني أو ضغط سياسي حقيقي. كما أن فشل عقد المؤتمر يضعف الأصوات المطالِبة بوقف إطلاق النار، ويمنح الحكومة الإسرائيلية مزيداً من هامش المناورة في تصاعد الحرب بين إيران وإسرائيل وتداعياتها
ثالثاً: ارتباك في التنسيق العربي
السعودية، بوصفها أحد رعاة المؤتمر، كانت تسعى لتوظيف هذا اللقاء في صياغة مبادرة سياسية جديدة، تعيد هندسة الحل السياسي ضمن رؤية إقليمية مدعومة غربياً. لكن التأجيل يضعف هذا التوجه، ويُحرج الرياض أمام حلفائها الإقليميين، خاصة مصر وقطر، اللتين تقودان الوساطات الميدانية.
ويعني ذلك دخول التحرك العربي في مرحلة من التردد والانقسام، ما يُضعف من تأثيره أمام إسرائيل، ويفتح المجال أمام تحركات منفردة أو صفقات ثنائية تتجاوز الإجماع الفلسطيني والعربي.
رابعاً: تعثر ملف إعادة الإعمار
كان من المقرر أن يكون مؤتمر نيويورك منصة لتدشين تفاهمات مبدئية حول إعادة إعمار غزة، وربطها بضمانات سياسية واقتصادية. لكن التأجيل يُبقي هذا الملف في حالة جمود شديد الخطورة، خاصة في ظل الكارثة الإنسانية المتفاقمة، والانهيار شبه الكامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
بدون أفق سياسي أو تمويل دولي منظم، ستبقى غزة رهينة المساعدات الطارئة قصيرة الأجل، فيما تُغلق أبواب التنمية والاستقرار.
تأجيل مؤتمر نيويورك ليس مجرد إجراء فني، بل حدث سياسي يكشف عمق الأزمة الدولية في التعاطي مع القضية الفلسطينية.
هو جرس إنذار بأن الصراع لم يعد يحتمل إدارة الوقت، وأن أي تأجيل جديد، إن لم يُستثمر لبناء رؤية دولية أكثر اتساقاً وإنصافاً، فسيُترجم على الأرض إلى مزيد من الدمار، والدم، والخذلان.