ثقافة وفنون

وجوه من ذاكرة الخلود: كيف تكشف لوحات الفيوم أسرار الهوية والتمرد في مصر الرومانية؟

وجوه من ذاكرة الخلود: كيف تكشف لوحات الفيوم أسرار الهوية والتمرد في مصر الرومانية؟

اياد شماسنة

تُعدّ لوحاتُ مومياوات الفيوم ظاهرةً فريدةً في تاريخ الفنّ القديم، إذ تجسّد نقطة التقاء معقّدة بين الفنّ الكلاسيكي الهلنستي-الروماني والتقاليد الجنائزية المصرية العريقة. نشأت هذه اللوحات في بيئةٍ ثقافيةٍ متعددةِ الطبقات في مصر الرومانية بين القرنين الأوّل والثالث الميلادي، وتتميّز بكونها صوراً شخصيةً رُسمت على ألواحٍ خشبيةٍ باستخدام تقنياتٍ متقدّمة، ثمّ ثُبّتت على وجوه المومياوات، مما جعلها مصدراً مهمّاً لدراسة التداخل الثقافي والاجتماعي في تلك الحقبة، ومنحها قيمةً أثريةً وبصريةً استثنائية.

الهوية في مواجهة الموت

تحمل عبارة «لوحات مومياوات الفيوم» دلالة مزدوجة، فهي تُحيل إلى نوع من اللوحات الفنية، وفي الوقت ذاته إلى ممارسة جنائزية ذات أبعاد ثقافية وأيديولوجية. يعود اكتشاف هذه اللوحات إلى أواخر القرن التاسع عشر، خاصة في منطقة الفيوم المصرية، وهي منطقة خصبة شهدت تمازجاً سكانياً فريداً خلال الحقبة الرومانية. لقد أدهشت هذه اللوحات علماء الآثار ومؤرخي الفن على السواء، لأنها كانت تمثل خروجاً عن التقاليد الجنائزية المصرية المعروفة التي ركزت على الرموز الدينية، نحو تصوير تشخيصي فردي يحمل طابعاً واقعياً يُحاكي الفن الإغريقي-الروماني.
وأصبحت مصر، بعد عام 30 ق.م، ولايةً رومانيةً خاضعةً مباشرةً للإمبراطور أوغسطس، وبرزت منطقة الفيوم في هذه الحقبة مركزاً سكانيّاً وزراعيّاً متميّزاً. وقد احتضنت هذه المنطقة تركيباً إثنيّاً متعدّد العناصر من المصريين الأصليين، والمستوطنين اليونانيين، والمواطنين الرومان، ما أوجد بيئةً ثقافيةً هجينة. وفي هذا السياق، اندمجت الطقوس المصرية المرتبطة بفلسفة الخلود وتقنية التحنيط مع القيم الجمالية الرومانية التي تحتفي بالتمثيل الواقعي للفرد.
تمثّل اللوحات الجنائزية في هذا الإطار مرآةً لصراع التأقلم بين القيم المتجذّرة في اللاهوت المصري القديم من جهة، والمفاهيم المستجدّة حول الذات والمواطنة والهوية والمكانة الاجتماعية كما صاغتها الإمبراطورية الرومانية من جهةٍ أخرى. وعليه، فإنّ هذه اللوحات لا تُفهم فحسب بوصفها «فنّاً جنائزيّاً»، بل بوصفها كذلك فعلاً سياسيّاً وثقافيّاً يجسّد توتّر الهوية في زمن الهيمنة.
تُعتبر التقنية عنصراً حاسماً في فهم هذه اللوحات، إذ تكشف عن معارف متقدمة في التعامل مع المواد والسطوح. غالباً ما رُسمت اللوحات على ألواح من خشب الزيزفون، الجميز، أو الأرز، بأبعاد معيارية تتراوح بين 30 إلى 40 سنتيمتراً، ملائمة لتثبيتها على وجوه المومياوات. اعتمد الفنانون تقنيتين رئيسيتين:
الرسم بالشمع الساخن (الأنكوستيك): يمزج الصباغ مع شمع العسل الساخن، ما ينتج ألواناً زاهية وملمساً ثلاثي الأبعاد.
الرسم بالتمبرا: تُستخدم فيه مادة رابطة مائية (غالباً صفار البيض)، وتنتج سطحاً مطفياً أقل سماكة.
وقد أثبتت التحاليل الفيزيائية والكيميائية وجود أصباغ معروفة في الفن القديم مثل المينيم (أكسيد الرصاص الأحمر)، الأوربيمنت (زرنيخ أصفر)، الأزرق المصري، والكربون الأسود. كما كشفت دراسات بالأشعة تحت الحمراء وXRF عن وجود رسومات أولية وخطط تركيبية دقيقة، ما يدل على دقة التخطيط وقصدية التكوين.

ملامح الجمال
والهويات المتفاوض عليها

يتّسم التكوين البصري في لوحات الفيوم بالبساطة الظاهرة والعمق الرمزي. فالصورة النصفية، والنظرة الأمامية الثابتة، والعينان الواسعتان، والحلي، والتفاصيل الدقيقة في تسريحات الشعر وطيّات الملابس، كلها مؤشرات دالة على الجندر، والمكانة الاجتماعية، والانتماء العرقي.
تبنّت هذه اللوحات معايير الجمال الكلاسيكية التي تمجد الشباب والسمات المثالية، لكنها أحياناً تدرج رموزاً مصرية محلية مثل عين حورس، مما يشير إلى تفاعل مستمر مع الرموز الثقافية العميقة. وقد لاحظ باحثون تفاوتاً بين الصور التي تبدو واقعية فردية وتلك التي تنحو نحو نمذجة مثالية، مما يدل على تفاوض مستمر بين التعبير عن «الذات» والتوافق مع أنماط ثقافية مفروضة.
ولطالما دار جدل في الأوساط الأكاديمية حول وظيفة هذه اللوحات. فبينما رُجّحت وظيفتها الجنائزية البحتة، تقترح أدلة مادية مثل وجود ثقوب تعليق، أن بعض هذه اللوحات ربما استُخدمت داخل البيوت كصور شخصية، قبل أن تُدرج ضمن لفائف المومياوات. وهو ما يمنحها وظيفة مزدوجة بين الحياة والموت.
من زاوية أنثروبولوجية، تعبر هذه اللوحات عن هويات هجينة ومعقدة: مصريون هلنستيون، رومان محليون، أشخاص في مواقع اجتماعية انتقالية. هذه الهوية المتفاوض عليها تُشفّر في ملامح الوجه، وفي اختيار اللباس، وفي طبيعة المواد والتقنيات، وفي الطابع العام للوحة. وهي بذلك تعكس ليس فقط الامتثال للسلطة الرومانية بل أيضاً أشكالاً من المقاومة الصامتة، عبر الاحتفاظ بعناصر مصرية في سياق مرئي «إمبراطوري».

من الاستشراق إلى التأويل المعاصر

بدأ التنقيب المنظم عن هذه اللوحات على يد السير فليندرز بيتري في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة في موقع هوارة. وقد تبعت هذه البعثة بعثات ألمانية ونمساوية، وجُمعت مئات اللوحات ونُقلت إلى متاحف أوروبية كبرى مثل المتحف البريطاني، واللوفر، ومتحف المتروبوليتان للفنون. وقد أثارت هذه الأعمال إعجاب النخب الفنية الأوروبية، لكنها اندرجت في إطار استشراقي يرى في هذه القطع دليلاً على «التأثير الحضاري الغربي» على الشرق.
في العقود الأخيرة، تزايد الوعي النقدي تجاه إرث هذه التنقيبات الاستعمارية، وصارت المتاحف تسعى إلى تقديم هذه اللوحات ضمن سياق إنساني وتاريخي، لا كـ«تحف أثرية» مجردة، بل كوجوه حقيقية لأشخاص عاشوا وماتوا في بيئة معقدة. وبدأت المعارض الحديثة تركز على البعد الشخصي والبيوغرافي لهذه اللوحات، وتسعى إلى إعادة الاعتبار للأفراد المرسومين فيها كذوات كاملة لا كأجسام أثرية.
تعاني لوحات الفيوم من مشاكل حفظ كبيرة نظراً لطبيعتها العضوية، وتركيبها من مواد مختلطة سريعة التأثر. تشمل هذه التحديات تقشر الصباغ، التواء الألواح الخشبية، تحلل المواد الحيوية، وتأثيرات ترميمات سابقة أجريت بمواد غير مناسبة.
تعتمد جهود الحفظ المعاصرة على منهجيات غير تدخلية، مثل التصوير الطيفي، وأدوات التثبيت الدقيق بشموع اصطناعية متوافقة، والتحكم البيئي الصارم في درجة الحرارة والرطوبة. كما يدور نقاش أخلاقي حول مدى التدخل المسموح به، وكيفية عرض هذه اللوحات: هل تُعرض في حالتها المتدهورة أم تُرمم لتقترب من حالتها الأصلية؟ وما مدى شرعية الاحتفاظ بها في متاحف خارج مصر؟
ألهمت هذه اللوحات طيفاً واسعاً من الفنانين والمؤرخين والمفكرين، لما تطرحه من أسئلة عميقة حول تمثيل الذات، والهوية، والذاكرة، والفناء. إنّ تعبيرها البصري القوي يجعلها وسيلة معاصرة للتأمل في مسائل تتجاوز السياق التاريخي، نحو أبعاد فلسفية وأخلاقية وفنية.
وتُوظف التكنولوجيا الحديثة اليوم في إعادة بناء هذه اللوحات رقمياً، من خلال نمذجة ثلاثية الأبعاد، وتحليل الأصباغ، واستعادة النسخ الأصلية افتراضياً. وهي تقنيات تتيح للجمهور العالمي التفاعل مع هذه القطع بطرق جديدة تُعيد إحياء حضورها خارج الأطر المتحفية المغلقة.
لوحات تتجاوز الموت

تشكل لوحات مومياوات الفيوم إحدى اللحظات الاستثنائية في مسيرة الفن وتاريخ الإنسانية على السواء؛ إذ تتقاطع فيها تيارات الفن الكلاسيكي الهلنستي-الروماني مع الطقوس الدينية المصرية العريقة، ضمن إطار سياسي يرسخ هيمنة روما ويعيد صياغة الهويات المحلية وفق منظومة استعمارية ثقافية معقدة. فهذه اللوحات لا يمكن اختزالها بوصفها بورتريهات لوجوه راحلة، بل هي سجل بصري لهويات في طور التشكل والتفاوض، وخطاب تصويري مكثف عن الذات والجماعة والخلود في مرحلة تاريخية متحوّلة.
إن القيمة العلمية لهذه اللوحات تتجاوز بعدها الأثري أو الجمالي إلى أفق أوسع، يتمثل في كونها وثائق سير ذاتية مرسومة تعيد إلينا بصرياً وجوه أفراد، وتجسّد في الوقت ذاته قلقهم الوجودي وصراعهم مع معاني الذات والمواطنة والانتماء في سياق سلطوي يفرض معايير ثقافية جديدة. إنها تشهد على تعايش القيم المتجذرة مع أشكال الهيمنة، وتبرهن على قابلية الهويات للتحوّل وإعادة التعريف ضمن شبكة معقدة من التقاليد والمعايير الإمبراطورية.
أخيراً، إن التحدي الأخلاقي المعاصر أمام هذه اللوحات يتجاوز صونها بوصفها مقتنيات متحفية أو تحفاً فنية؛ إذ ينبغي النظر إليها كتراث إنساني يستوجب الحفاظ عليه مادياً ومعنوياً، بما يصون كرامة أصحابها الأصليين ويعيد الاعتبار لمعاني الذاكرة والهوية المرتبطة بها. إن لوحات الفيوم، رغم صمتها الهادئ، تظل تهمس في آذان الأجيال اللاحقة بأسئلة عميقة عن حدود الفن، ومعنى الموت، وجدلية الخلود والهوية في سياق بشري متحوّل. إنها لوحاتٌ تتجاوز الموت حقاً، لتبقى حاضرةً في قلب أسئلة الإنسان الوجودية الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب