
تخييل التاريخ: هل يضر المحكي بحقائق الماضي؟

عبداللطيف الوراري
صار من الدارج في مضمار الرواية العربية الجديدة، أن يتم استثمار المادة التاريخية وإعادة تشكيلها عبر أفانين التخييل السردي، إلى أن غدت الحدود بين التخييل والواقع ضبابية؛ فغالبا ما سعى مبدعو السرد العربي المعاصر إلى الحفاظ على الحافز الذي يخلط بينهما، وبالتالي يعقد الرؤية الصافية والمتماسكة. من هنا، أخذت تثار قضايا إبستمولوجية تمس في الصميم جوهر الفن الروائي، بما في ذلك إشكالية التمييز بين ما هو واقعي في العالم الخارج ـ نصي عما يبنيه المؤلف داخل العمل، ويقترح من خلاله نمطا نوعيا وخاصا لمعرفة العالم، لاسيما إذا كان أغلب أولئك المبدعين يسعى للحفاظ على هذا الالتباس، بين ما هو مرجعي وما هو تخيلي ويرتضيه أسلوبا في الكتابة. ولئن كان قد ساد في حقبة ما عرف بـ»الرواية التاريخية» التي كانت توجهها منازع حضارية وأيديولوجية محددة، وناطقة بهواجس زمانها، فإن الرواية اليوم، تحت تأثير مهيمنة التخييل، أخذت تنزع إلى كتابة التاريخ بعيون الحاضر وإشكالاته الضاغطة، بصورة مسكونة بالتجريب تستجيب أكثر لطبيعة الكتابة الروائية، التي تستلهم من وقائع الماضي الرسمي والهامشي محكياتٍ بديلة ذات هوية سردية جديدة.
كيف ينظر إلى ثنائية تاريخ/ تخييل؟ إلى أي مدى يستطيع الروائي توظيف التخييل السردي لتمثيل الأحداث التاريخية، دون أن يلحق بها ضررا؟ كيف يمكن أن يرجع إلى حدث تاريخي ولى ويبني عليه من أجل التعبير عن تجربة معاصرة؟ ما الإكراهات السردية التي يمارسها الشكل الروائي داخل التوتر، بين ما هو تاريخي وتخييلي؟
مصطفى النحال: التخييل وسيرورة تأويل التاريخ
من الناحية النظرية، هناك عدة مداخل للحديث عن الاختلافات والعلاقات المتداخلة بين مفهومي التخييل والتاريخ، حسب زاوية المقاربة. ويمكن القول، عموما، إن التاريخ يكتب بإحالاتٍ تخييليةٍ، كما أن التخييل يكتب بإحالاتٍ تاريخية. وبالتالي فالتخييل والتاريخ يلتقيان عند نقطةٍ بالتحديد، هي إرادتهما معا لجعل الزمان السردي يعاش. فالتاريخ يتوسل بالتخييل، بمعنى ما، لإعادة تشكيل الزمان، والتخييل بدوره يستعمل التاريخ لتحقيق الغرض نفسه. ومعنى ذلك أن التاريخ يطمح إلى الإحاطة بأحداث الماضي في شموليتها، مع البقاء في الوقت ذاته مرجعيا في البعد السردي للخطاب التاريخي. التخييل يخلق وهم الحضور، والتاريخ يعطي التفسير والمسافة النقدية. كما أن التخييل في بعده السردي منفتح على كل شيء وكل عنصر في التاريخ. التخييل يدمج ويعيد كتابة نصوصٍ أخرى وكلامٍ آخر ووثائق أخرى لم تصلنا ربما. فمؤلفات ذات صبغة تأريخية سردية، على غرار «قصص الأنبياء» و»معجم البلدان» و»الأخبار الطوال» و»مروج الذهب»، إضافة إلى كتب المحكيات، على غرار ألف ليلة وليلة، وكتب العجائب والرحلات، إلخ، تحفل بذكر قصص العرب البائدة والأمم الغابرة، التي وردت في النص القرآني بصورةٍ تلميحية، أو موجزة، مثل عاد وثمود وجرهم والعماليق. كما تحفل بقصص الشخصيات الغابرة الكبرى، مثل فرعون وموسى والخضر وسليمان وذي القرنين، وما يتعلق بتواريخهم واقتتالهم وحروبهم، أو بمعتقداتهم وآلهتهم. فداخل عالم التخييل كل شيء يغدو تخييلا: يكفي أن يكون السارد والأبطال تخييليين، حتى تفرغ جميع الإحالات على الماضي التاريخي من وظيفتها التمثيلية الفعلية للماضي التاريخي.
وإذا كان من الضروري إقامة تمايزٍ بين التاريخ والتخييل، فليس في اتجاه التعارض بين مبحثين مختلفين اختلافا نهائيا، بل في اتجاه الوقوف عند الأرضية المشتركة بينهما، من خلال ما يوحدهما. وبالتالي يمكن القول إن الفرق الأساسي بين التاريخ والتخييل مرده إلى نزوع كل منهما إلى التعبير عن حقيقةٍ معينة، وفق آلياته الخاصة، ومن خلال حبكة سردية خاصة. التاريخ يعبر عنها باعتبارها حقيقة واقعية جرت في الزمان والمكان، بينما المحكي التخييلي يعبر عنها باعتبارها حقيقة محتملة، حقيقة كان يمكن أن تحدث في الزمان والمكان؛ معنى ذلك أن ثمة فرقا في استراتيجية الخطاب والرهان التخييلي لكل منهما.
إن الروائي، بفضل الحرية التي يفترضها الشكل السردي، يمكنه اتباع قاعدة الوحدة الزمانية؛ أي أن بإمكانه تشكيل قصته ووضع بداية ونهاية واضحتين لها، وبإمكانه كذلك مصاحبة شخوصه، بدءا من لحظة معينة من حيواتهم إلى لحظة أخرى. ويمكنه وصف حيواتهم بكاملها وفي اكتمالها. علاوة على أن له حرية ملء فواصل محكيه، في حين أن المؤرخ، الذي يتوجب عليه أن يظل وفيا لما جرى بالفعل، لا يجازف بالقيام بذلك بالسهولة ذاتها، لأن للروائي كل الإمكانيات الكفيلة بخلق عالمٍ مكتفٍ بذاته، يضع له هو نفسه أبعاده وحدوده، مثلما يمكنه من زمانه ومكانه وشخصياته وأشيائه وأساطيره. يرى الروائي في التاريخ فسيفساء كاملة من القصص، وفضاء مفتوحا يمنح إمكانات متعددة. التخييل هو بناء عوالم تنتظر عددا من الإمكانات التأويلية من طرف القارئ، تلطيفا أو تعديلا أو تحويرا أو إهمال التناقضات التي من شأنها أن تعوق الانغماس التخييلي، بلغة جان ماري شايفر. ومن ثم، فإن التخييل لا يكون مكتملا إلا بوجود القارئ وحضوره، لأن الممارسة التأويلية لهذا الأخير هي جزءٌ لا يتجزأ من التخييل. فله تعود مسؤولية إيجاد حلول لبعض المفارقات والتناقضات داخل التخييل، ومهمة خلق تأويله الخاص في إطار التعاون والاستمتاع داخل الانغماس التخييلي، أو انغماسه التخييلي على وجه الدقة.
إن الروائي اليوم يوظف التخييل لكي تنزاح كتابته عن المماثلة والمطابقة التي تربط حدثا تاريخيا بزمانٍ محدد ومكان حقيقي وأشخاص وجدوا فعلا، وبالتالي يفتح لإبداعه آفاقا تأويلية سردية وأدبية. يغدو التخييل تلك السيرورة التي ننتقل بواسطتها من العالم المرجعي المشترك، إلى عالم غير مرجعي بالضرورة، بما أن التخييل يستقل بذاته عن الأحداث الواقعية. وبالتالي يتطلب التخييل إعادة تأويل ما هو معروف حسب معطيات السياق. إنها عملية إعادة تركيز ينجزها القارئ الذي يتعين عليه أن يتخذ العالم التخييلي، بصورةٍ مؤقتة، باعتباره العالم «الحقيقي» الوحيد الممكن، ويقبل الواقع الذي يعرض عليه. الإكراهات السردية يمكن أن تكون شكلية أو أسلوبية أو موضوعاتية أو لغوية، هي التي تشكل حصة التخييلي في علاقته بالتاريخي، على اعتبار أن التخييل، كما يقول بول ريكور، هو مجموع الإبداعات الأدبية التي تتجاهل طموح المحكي التاريخي، المتمثل في بناء محكي حقيقي. الشكل الروائي هو لغةٌ مكتوبة، هو عبارة عن سيرورة تشكلٍ وبناءٍ. إن التخييل السردي يستمد استقلاليته من انسجام عالمه ومعاييره الخاصة التي ينتجها، وهي التي يوجد احترامها في صلب الميثاق التخييل. غير أن استقلالية التخييل لا تعني أنه يخلق من عدمٍ، بقدر ما يستند إلى مرجعياتٍ تاريخية ليحولها عبر آلياتٍ تخييلية إلى عالمٍ سردي ينفصل عنها تدريجيا، وتحمل القارئ، المتوفر على قدرٍ معين من المعرفة، على قبول هذا العالم والتآلف معه، انطلاقا من الميثاق التخييلي. إن هذا الميثاق هو الذي يجعل القارئ ينجز انغماسه التخييلي.
عبد المجيد سباطة: رهان التخييل التاريخي
أعتقد أن سؤال الرواية التاريخية والتخييل التاريخي، لا بد أن ينطلق أولا من علامتي استفهام: الأولى هي حدود اعتبار الرواية التاريخية مرجعا تاريخيا معتمدا، ما دامت مبنية بدرجة أولى على الخيال؛ والثانية ترتبط بمدى التسليم بأن المراجع التاريخية المتوفرة حول حقبة معينة هي ذات مصداقية فعلا، أم خاضعة لأهواء مؤرخين كانت لهم بالتأكيد حساباتهم الخاصة في إضافة، أو حذف ما يرونه مناسبا، بما يحيلنا إلى التساؤل الشهير (كيف يمكن أن نصدق ما جرى في الماضي ونحن نتابع أمام أعيننا حجم التلاعب بالحاضر نفسه؟). روايات جرجي زيدان نفسها أخضعت للمساءلة المتعلقة بنوايا المؤلف، والمراجع المعتمدة في رواياته (وكان يذكرها في مقدمة كل رواية)، فتعرضت أعماله للهجوم، بين من يرى فيها تركيزا فقط على مراحل الاضطراب والصراعات الداخلية في المناطق الإسلامية، ومن يدعي اعتماده فقط على المراجع «شيعية» الهوى، ومن يقول إنه ماسوني مخلص لأهداف معينة في هدم السردية الإسلامية، وغير ذلك من الاتهامات.
من جهة أخرى، تتفق معظم التعريفات الأكاديمية على أن الرواية التاريخية هي التي تتناول فترة تسبق حاضر المؤلف بجيلين على الأقل (حوالي 50 سنة تقريبا)، وتحرص على الدقة الزمانية والمكانية للأحداث، وتستحضر الماضي بكل تفاصيله. وفي حال «الإخلال» بأي من هذه الضوابط، فإن الحديث حينها يدور حول «التخييل التاريخي»، الذي قد يمزج بين أكثر من حقبة تاريخية، أو يضع «الثوابت» موضع شك وتساؤل، أو يحرك الزمان والمكان بما يناسب شكل الرواية ومضمونها، فينقل الكاتب شخصية من الحاضر إلى الماضي، أو العكس، وقد يذهب أبعد من ذلك لقلب جريان نهر الأحداث نفسها، عبر طرح سؤال «ماذا لو؟» الذي خلق تصنيفا فرعيا هو «التاريخ البديل». بالنسبة لي، لطالما مثلت الرواية فرصة للتحرر من كل الضوابط، لذلك أضع رواياتي دوما في خانة «العابرة للتصنيفات». وهكذا، رغم حضور الماضي بأشكال مختلفة في أعمالي، إلا أنني لم أعتبر أيا منها رواية تاريخية؛ فمن هذا المنظور، مزجت بين فترتين تاريخيتين في عمل واحد (الستينيات والتسعينيات في رواية «ساعة الصفر»)، أو تناولت حقبة واحدة مع إشارات خاطفة إلى حقبة أخرى (العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومنتصف الخمسينيات في رواية «الملف 42»)، أو تنقلت بين أزمنة وأمكنة مختلفة متباعدة (تمتد من عصر الموحدين إلى يومنا هذا وتنتقل في كل ربوع العالم في رواية «في متاهات الأستاذ ف.ن») بما يحررها بالتالي من صفة التاريخية، لكن بعض الحوارات الصحافية والقراءات الأولية بدأت من منطلق اعتبارها كذلك، فكنت أضطر في كل مرة إلى النفي (وإن لم يكن هذا من صلب المطلوب مني بعد صدور العمل الذي أصبح فعليا ملك القراء). أضف إلى ذلك أن بعض القراء قد رفعوا مسبقا لواء «النفور» من الرواية التاريخية، باعتبارها «وصفة جاهزة» للهروب من مصادمة مشاكل الواقع، الأجدر في نظر هؤلاء بالمعالجة، وهذا في نظري موضوع آخر، يطرح إشكالية علاقة مجتمعاتنا البنيوية بالماضي، وما يستدعيه ذلك من مساءلة ضرورية، قد تكون الحل الأمثل (ولو جزئيا) لفهم جملة من أعطاب الحاضر.
طارق بكاري: أكتب الماضي بعين الحاضر
أشتبك في كل ما أكتب بالتاريخ، لكنني أحتفظ بمسافة، فليس من مهام الرواية توثيق التاريخ، ودائما ما أمتعض من كل رواية تضع حافرها على حافر المؤرخ؛ فشتان بين اجترار رواية المؤرخ، واختراق الصلابة السردية لهذه الرواية. من هنا يظهر الفرق بين الرواية التاريخية والتخييل التاريخي، فإذا كانت الأولى تروم بعث التاريخ على نحو مرن مبسط مع خلفية أخلاقية، أو موجه إيديولوجي يتماهى إلى حد ما والخطاب الرسمي، فإن التخييل التاريخي يحفل قبل كل شيء بالهاجس الجمالي، بحيث لا يكون التاريخ سوى ذريعة لمساءلة الماضي أو إدانته بهدف إضاءة الحاضر أولا. وهكذا، فالتاريخ المؤسساتي هو في الأخير خطاب اختزالي، يتدخل فيه مبضع المؤرخ الرسمي حذفا واستمالة وتأويلا غير بريء، لذلك يصعب قبوله كـ»حقائق»، لأنه خاضع في جوهره لسلطة المنتصر. وعليه، «فما دامت الأسود لا تملك مؤرخين يؤرخون لها، فستظل حكايات الصيد تمجد الصيادين وحدهم» كما يقول المثل الافريقي. وهنا يستمد التخييل قوته من قدرته على منح صوتٍ لمن فقدوا حقهم في الكلام، فضلا عن اقتراح سرديات بديلة، وإضاءة تلك العتمة التي لا يضيئها المؤرخ، أو يسكت عامدا عنها. إنه انتصار متأخر، لكنه ضروري، للمنسي والهش والهامشي، كما أنه مساءلة ضرورية للسلطة التي أنتجت روايتها الرسمية، وإدانة لها في الوقت نفسه.
في السياق ذاته أرى أن الروائي ينبغي أن لا ينظر للتاريخ إلا في حدود كونه مطية لمساءلة السلطة سياسية كانت أم دينية أم ثقافية. يكتب عن الماضي لكن عينه أبدا على الحاضر، بل ينبغي أن يكتب وفق حساسية معاصرة، لأن التخييل التاريخي، في العمق، استعارة للماضي وارتداء لأقنعة زمن آخر بعيد بهدف اجتراح آفاق دلالية مغايرة تلهج بأسئلة الزمن المعاصر وإن كانت تستند في جوهرها إلى المادة التاريخية.
بوصفي قارئا أرى أن الكثير مما يكتب -عربيا- اليوم تحت مسمى التخييل التاريخي، يفتقر في الغالب إلى التوازن الضروري بين الصدق الفني والحقيقة التاريخية، فإما أنه يميل كل الميل إلى إغراء الحرية التخييلية، مع ما يترتب عن ذلك من تزييف للحقائق وتلاعب بالمرجعية التاريخية، وإما أنه يميل إلى التأريخ، وهنا يستحيل الروائي إلى مريد للمؤرخ وناطق باسمه، مع ما يترتب عن ذلك من هيمنة للحمولة المعرفية التي تقدم في كثير من الأحيان على نحو استعراضي فج.
شخصيا، لا أكتب الرواية التاريخية، ولا أتصور أنني سأفعل مستقبلا، لكنني أستعين في جل ما أكتب بالتخييل التاريخي، أكتب الماضي، ولكن القدم راسخة في الحاضر، ألين صلابة الحدث التاريخي بالحرية التخييلية التي يمنحنا إياها الشكل الروائي، وأحاول دائما أن أجد نقطة ارتكاز ما بين التخييل الجمالي والصدق التخييلي، محترزا من انفلات صرامة الحقيقة التخييلية وانقلابها إلى بهرجة واستعراض معرفيين يسيئان إلى جمالية الرواية.
كاتب مغربي