
أم كلثوم والجزائر: غابت المطربة وحضر صوتها

سعيد خطيبي
غنت أم كلثوم في تونس والمغرب، لكن لم تطأ قدماها الجزائر، وهذا أمر محير. لاسيما أن الجزائر عقب الاستقلال (1962) شهدت تقاربا مع مصر، وكان المسؤولون الكبار من البلدين يتبادلون الزيارات، بل إن الرئيسين أحمد بن بلة ثم هواري بومدين كررا في أكثرمن مناسبة شكرهما لمصر، نظير مساعداتها في غضون حرب التحرير، وسمّت الجزائر واحدة من أشهر ساحاتها في العاصمة باسم «بور سعيد»، في تحية تقدير للمصريين، وجمال عبد الناصر كان أيقونة في أوساط الشباب، في تلك السنين، كانت صوره تعلق في المحال وفي الشوارع، واسمه يتردد في المجالس، فنشعر وكأنه صار جزائريا.
هذا التقارب السياسي، وكذلك الثقافي بين الطرفين، بحكم أن الجزائر استنجدت بأساتذة ومعلمين من مصر عقب الاستقلال، كان يمكن أن يتوج هذا التقارب بحفلة لأم كلثوم. كان يمكن أن تصل إلى الجزائر العاصمة أو قسنطينة أو وهران، وتؤدي وصلات من أعمالها الشهيرة، وتجد جمهورا متعطشا لرؤيتها والإصغاء إليها. ففي تلك السنين، وفي مدن عربية أخرى، كان الناس يبيتون في العراء ليلة قبل حفل أم كلثوم، كي لا يضيعوا على أنفسهم فرصة الاستماع إليها. كانوا يملأون القاعات بالآلاف. ومثلهم كان الجزائريون يرغبون في أن تزورهم كوكب الشرق، التي سبقتها شهرتها إلى البلاد.
لكن الروايات تضاربت بشأن غياب أم كلثوم عن الجزائر، وعن الدواعي التي أدت إلى عدم وصولها إلى البلد. فهناك من يقول، إن الحكومة لم ترد التعتيم على سمعة وردة الجزائرية، وإن حضور أم كلثوم من شأنه الإنقاص من قيمة وردة الفنية، وهناك من يقول إن الرئيس هواري بومدين نفسه كان يدافع عن وردة الجزائرية، ولم يشأ أن تزاحمها مطربة أخرى في مكانتها، وهي فرضية لا تستقيم تمام الاستقامة. بما أن الحكومة آنذاك، ودت الدفاع عن سمعة وردة، فلماذا لم تروج لها خلف الحدود؟ لماذا لم تتدخل في الترويج لها في دول عربية وشقيقة؟ وهناك رواية أخرى، لا تخلو من تعصب، تفترض أن وردة الجزائرية نفسها لم يعجبها أن تأتي أم كلثوم، وأرادت أن تظل الجزائر حكرا عليها، وأن وردة نفسها من أقنعت هواري بومدين بعدم دعوة كوكب الشرق. لكن هواري بومدين توفي (عام 1978) من غير أن يخلف مذكرات، كما هي عادة الرؤساء، وبالتالي يتعسر الحكم على نواياه.
في المقابل هناك من يروج لفرضية أخرى مفادها، أن أم كلثوم كانت تفرض شروطًا قبل الغناء في أي بلد، ومن بين شروطها هي أن تحظى باستقبال رسمي من طرف علية القوم وأصحاب الحل والربط في شؤون السياسة. وإن كان هذا الشرط صحيحاً فإنه منطقي، لأنها كانت نجمة زمانها، ومن حقها أن تحظى باستقبال رسمي، مثلما يحظى به لاعب كرة أو رجل أعمال، كما أنها في نهاية الستينيات ثم مطلع السبعينيات، كانت تحيي حفلات من أجل دعم جيش بلدها، الذي خرج منهكا من حرب النكسة.
إذن تضاربت الروايات بشأن غياب أم كلثوم عن الجزائر، في حقبة كانت فيها الجزائر منخرطة في سياق «عالمثالثي»، في حقبة دعمت فيها البلاد حركات التحرر في افريقيا، وقدمت فيها نفسها كواحدة من أعمدة حركة عدم الانحياز، وسادت فيها مودة مع مصر، مع عبد الناصر ثم أنور السادات، ففي صيف 1969 نظمت الجزائر المهرجان الثقافي الافريقي، وكان أكبر حدث في القارة السمراء، جمع الفنانين والمثقفين الأفارقة، بالإضافة للناشطين السياسيين من أجل تحرر دولهم. في تلك الأيام استقبلت الجزائر كبار المطربين من القارة الأفريقية، وأتاحت لهم الميادين والقاعات في الغناء، وكان من الضيوف ميريام ماكيبا (جنوب افريقيا)، التي لم تكتف بالغناء، بل منحوا لها المواطنة الجزائرية، وهو أمر نادر الحصول. من غير المألوف أن تُمنح الجنسية إلى فنان أجنبي، لا سوابق له في دعم حرب التحرير. وبينما نالت ماكيبا التشريفات، كانت أم كلثوم غائبة، ما يوحي بأن قضية أم كلثوم أكبر من أن تكون قضية مزاج، أو أن غيابها عن الغناء في الجزائر يعود إلى خلافات شخصية. فهناك رواية أخرى، يعوزها الإسناد، لكنها انتشرت، مفادها أن تغيب أم كلثوم عن المجيء إلى الجزائر، يعود إلى عدم تأديتها أغنية في دعم حرب التحرير. وهي فرضية هشة، بحكم أن عددا من الفنانين الذين زاروا الجزائر، ولاقوا حفاوة في الترحيب، لم يسبق لهم أن غنوا عن حرب التحرير. لماذا إذن يقع الحظر على كوكب الشرق دون غيرها من المطربين؟
خمسون عاما انقضت على رحيل أم كلثوم، لكن صوتها لا يزال شديد الحضور. كما إنها مناسبة نستعيد فيها واحدة من ألمع الأصوات في القرن الماضي. ونشاهد منذ أسابيع احتفاءً بذكراها، وكل واحد من البلدان العربية يدافع عن حقه في ذكراها، لكن قائمة هذه البلدان يغيب عنها اسم الجزائر. غابت أم كلثوم عن الجزائر فصارت الجزائر غائبة عن استعادة ذكراها (مع أن المسرح الجزائري ينوي إقامة حفل في ذكراها بالاشتراك مع السفارة المصرية). لكن غياب هذه المطربة عن المجيء إلى البلاد، في سنين مجدها، لم يقلل من تهافت الناس عليها. منذ زمن الفونوغراف والمذياع، عندما كان الجزائريون يتحلقون في الإصغاء إليها، وصولا إلى زمن التلفزيون، ثم توالت الأجيال، وبلغنا جيلا شابا أعاد اكتشافها بواسطة الإنترنت والوسائط الاجتماعية.
على مرّ هذه السنين لم يخفت صوت كوكب الشرق في الجزائر، كما إن نجوميتها لم تعتم النظر في جواهر وردة الجزائرية. وكأن كل مطربة تحيل إلى الأخرى. لقد غابت أم كلثوم عن الجزائر لكن صوتها حضر. تعددت الروايات عن أسباب عدم غنائها في البلاد، وكل الفرضيات المتداولة تحتمل الأخذ والرد، لكن الثابت فيها أنها كوكب الشرق صوت يتعسر أن تتجاوزه الأجيال. ورغم ما تحوزه الجزائر من تعدد في الطبوع الفنية، ومن طفرة في النتاج الموسيقي، فإنها لم تغفل النظر والإصغاء إلى صوت أم كلثوم. وغيابها عن الجزائر زاد حضورها في مخيلة الناس وأسماعهم.
كاتب جزائري