
مستقبل اسرائيل بين اسبارطة وأثينا.
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
يشكل كل من التاريخ ( الخبرات التاريخية لنهوض وانهيار الدول) والجغرافيا( الحيز الاقليمي لمكان الدولة ) المتغيرين الاعمق تأثيرا على مصير الدول ، ويجمع البعدان(التاريخ والجغرافيا ) بين ابعاد داخلية وأخرى خارجية ، وتتحدد مصائر الدول استنادا الى البعد الداخلي حينا والبعد الخارجي حينا آخر وتعاضد البعدين حينا ثالثا.
في القرن الخامس قبل الميلاد تجربة تستحق التأمل ، انها نموذجا اسبارطة وأثينا، فالبنية الداخلية لكل منهما من ناحية بنية السلطة والنزعة العلمية والمنظومة القيمية بل وبنية الاقتصاد كانت متباينة الى حد كبير، ودارت الحرب بينهما لمدة اكثر من عقدين ونصف ، ولم تنتصر اسبارطة رغم بنيتها الاوليغارشية ونزعتها العسكرية الا بمساعدة الفرس، اي ان اثينا هُزمت بسبب خارجي لا داخلي بحت، ولاقت اسبارطة نفس النتيجة عام 146 قبل الميلاد ايضا على يد الرومان (اي من الخارج ايضا).
وفي التجربة النازية نموذج آخر ، فرغم النزعة الاسبارطية في النموذج النازي(الاعتماد على القوة) فان هتلر جاء بفوز انتخابي حقق فيه حزبه المرتبة الاولى ب حوالي 44% من الاصوات ، ثم تحالف مع الحزب اليميني وتولى السلطة بعد ذلك (بعد موت هيندنبورغ عام 1934)، والملفت هو الانجازات الداخلية للنازية، فوفقا للارقام كان عدد العاطلين عن العمل في المانيا عام 1933(مع بروز هتلر) 6مليون عاطل عن العمل(30% من القوة العاملة) لكن العدد قبيل الحرب العالمية الثانية- اي خلال فترة هتلر- انخفض الى اقل من نصف مليون، وكان انتاج السيارات 60 الف سيارة سنويا ارتفع الى 300 الف بخاصة سيارات الفولكسواجن، وتقدمت الدولة علميا في مجالات التطور الكبير في الطائرات النفاثة والصناعات البصرية والاتصالات اللاسلكية، ناهيك عن تطور غير عادي في البنية التحتية، والقوة العسكرية. بعد كل هذا انهارت الدولة النازية وتقسمت بفعل عامل خارجي بشكل اساسي ولا لُبس فيه( اي ان الابعاد الداخلية رغم اهميتها لكنها لم تكن هي السبب الرئيسي).
اما الاتحاد السوفييتي ، والذي كان صاحب أكبر جغرافيا في العالم ،واكبر مخزون نووي ، وثاني اكبر اقتصاد في العالم، وتمددت آيديولوجيته الى كل بقاع العالم الى الحد الذي من النادر ان تجد مجتمعا ليس فيه ماركسيون ، ولكنه انهار وتمزق لاسباب داخلية بشكل اساسي(دون انكار العامل الخارجي ،لكنه لم يكن هو السبب المركزي).
فإذا انتقلنا الى النموذج الصهيوني، فهو نموذج قام بمساندة خارجية ، ويعيش بمساندة خارجية ، وهو مزيج في بعده الداخلي من اسبارطة والنازية وتاثر في بداياته بالنموذج السوفييتي بخاصة من نواح تمس البنية الداخلية( مع حزب العمل او المعراخ ونمط الكيبوتسات …الخ)، وهنا نطرح السؤال: ما الذي يحدد مصير اسرائيل ؟
ان النظر في دول العالم القائمة حاليا يشير الى ان هناك دولتان فقط يؤرقهما “الوجود بحد ذاته”، هما تايوان واسرائيل، فكل الدول لديها مشاكل داخلية وخارجية متنوعة، وبعضها مهدد عسكريا او مهدد بالتجزئة ، لكن لم نسمع أو نقرا عن دول يسيطر على ادبياتها وبشكل كبير للغاية فكرة “احتمال الزوال من الوجود ” الا اسرائيل وتايوان.
وينقسم الفكر الصهيوني المعاصر في هذه المسالة بين اتجاهين هما :
أ- اتجاه يرى ان الخطر على الوجود هو خطر خارجي (البيئة الاقليمية والدولية )، ولعل نيتنياهو هو الاكثر ترويجا لذلك.
ب- اتجاه يرى ان الخطر يكمن في البنية الداخلية القائمة على الاحتلال والنزعة العسكرية والتمييز العنصري وتنامي التيارات الدينية داخل المجتمع الاسرائيلي والارهاق من الحروب المتواصلة بل وسيطرة النموذج الاسبارطي رغم بعض القسمات الأثينية، ويمثل هذا التيار المؤرخون الجدد(إلان بابيه، وغيره) ودبلوماسيون سابقون(جدعون ليفي وغيره) ومفكرون( ديفيد باسيغ وغيره) ..الخ.
ويبدو ان الفكر الصهيوني بدأ يميل بشكل متزايد نحو النموذج الاسبارطي الذي نشأ به، وهو ما يعزز هواجس التيار الثاني ، وهنا لا بد من التفكير في كيفية تعزيز مقومات التيار الثاني والتي تتجسد في انه بعد طوفان الاقصى بعامين نقف امام مؤشرين في غاية الدلالة هما:
أ- في البعد الداخلي: احتلت اسرائيل في مؤشر الاستقرار السياسي المرتبة 173 وبمعدل (سالب 1.46 من 2.5) وهو ما يضعها ضمن اسوأ عشرين دولة في العالم في معدل الاستقرار.
ب- في البعد الخارجي: تحتل اسرائيل في العام الحالي(2025) المرتبة 155 في مؤشر السلام العالمي بقيمة 3.108 نقطة من خمسة( وهو يحدد مستوى علاقتها السلمية مع العالم، وكلما كانت علامة الدولة اعلى كان ذلك اسوأ ) ، وهو ما يجعلها ضمن أسوأ عشرة دول في العالم .
ان المؤشرين السابقين لهما دلالاتهما العميقة، ويبرران لماذا تقف اسرائيل وتايوان لوحدهما في التساؤل عن “الوجود او عدمه”…ربما.