
وأشرافُ أمّة لا ينالون قوتَهم

سهيل كيوان
عندما تبخل السماء بالأمطار لعدّة سنوات في بلد ما، ويرافقه جفاف متواصل تنهار الدّول، تهاجرُ الشُّعوب بحثاً عن الكلأ والطّعام لها وللأنعام والبهائم، وقد يؤدّي الجفاف إلى ثورات وانقلابات سياسية على النظام العاجز عن توفير الطّعام للناس. وقد تندلع حروب أهلية، فالجوعُ يضعف القيم والأخلاق والإحساس بالانتماء.
الجائع سوف يتقبّل الرّغيف من يد عدوّه والمسبّب الأوّل لمأساته.
إضافة إلى التجويع حتى الموت، تسعى حكومة الاحتلال المجرمة إلى القول لأهالي قطاع غزة، إنّ الله الذي تتمسّكون به، والذي تحاربون تحت رايته، لن يطعمكم، وإنّ الأمة العربية التي تحيط بكم عاجزة، وحكامها يخدموننا رغماً عن أنوفهم، فهم عاجزون عن فتح معبرٍ حدودي وإدخال الغذاء لكم ولأبنائكم، إمّا ضعفاً أو جُبناً أو تواطؤاً معنا.
في الشّتاء أحرق الغزّيون الكتب المدرسية والأدبية للتّدفئة، الآن صار بعضهم يلتهم أوراق الكتب كي يخدع معدته، بعد أن عزّت عليهم حتى أوراق الشّجر.
تفاخر العربُ وما زالوا بإطعام الطّعام، قبل الإسلام، وحثّ عليه الدّين من باب الصّدقة والتقرّب من الله.
«إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا مَتْربة».
«أرأيت الّذي يكذّب بالدين، فذلك الذي يدُعُّ اليتيم ولا يحضُّ على طعام المسكين».
«فليعبدوا ربَّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف».
وهنالك حث على إطعام الفقير كذلك في التوراة والإنجيل وفي مختلف الأديان حتى الوثنيّة.
الله سبحانه وتعالى، اتّخذَ من الإطعام وسيلة لجذب النّاس على الإيمان به وعبادته، فهو ييسر للمؤمنين رزقهم في الدنيا، ويعدُهم بتناول الطيّبات في الآخرة، فلا يعرفون جوعاً أو عطشاً. وفي المقابل، يحذّرهم بأنّه سيحرمهم من الطّعام إذا ما كفروا «وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنة يأتيها رزقها رغَداً من كل مكان، فكفَرتْ بأنعم الله فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف بما كانوا يصنعون».
وهذه الآية الكريمة تتردّد كثيراً على ألسنة خطباء المساجد في أنظمة القَمْع، خصوصاً في أيام التوتّر والاضطرابات السّياسية. توحي المخابرات للخطباء بأن يحذّروا الناس من مغبّة القيام بأيِّ عملٍ يستفزُّ النّظام، فيمزج الخطيب بطريقة ذكيّة ومُضلِّلة غضب الحاكم بغضب الله، ليفهمك بأنّه عليك الإذعان للسّلطة وعدم إثارة نقمتها، وإلا أصابك ما أصاب أهل تلك القرية، وبهذا يُعتبر ما يحصل عليه المواطن من خبز نعمة يغدقها الحاكم عليك، فإذا كفَرت به، ألبسك ثوب الخوف والجوع، وذلك من خلال الفصل من العمل أو الاعتقال والإهانة والتّرويع.
وبقدر أهمية الطعام، جاءت أهمية الصّوم، وهو أحد أهم الطقوس في مختلف الديانات.
الصَّوم الذي يعني الجوع، يعيد الإنسان إلى ضعفه، يذكّره بإمكانية أن يحدث له هذا الحرمان. يحثّه على استعادة مشاعره التي تآكلت أو كاد يفقدها في معارك الحياة اليومية. في الجوع تذليل للنّفس، يتراجع لدى الجائع الاعتداد بالذّات، يُدرك ضعفه.
في الاستبيانات التي يجريها الباحثون حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للناس، تجد هناك أسئلة مثل: هل تتناول الطّعام عندما يتوفّر لك؟ أم تتناوله متى تشاءُ!
هل مرّ عليك يومٌ في الشّهر الأخير لم تستطع فيه الحصول على طعامك! أو حصلت فيه على وجبة واحدة فقط؟
هل تختار نوع الطعام الذي تتناوله؟ أم أنّك تأكل ما يتوّفر بغضِّ النّظر عن نوعيته ومصدره.
قد تجد فقيراً أو متوسّط الحال تفوّق في مكانته الاجتماعية على غنيٍّ، لأنّه من أولئك الذين يُقرون الضيف، وتجده يفتح بيته ويصرُّ على تقديم «واجب» في مناسبات مثل الأتراح وغيرها، والواجب هو وجبة طعام بعد مراسم دفن الرّاحل، أو في اليوم التالي بعد دفنه.
استخدم التّجويع كوسيلة لترويض الوحوش، ولتطويع البشر المُتمرّدين، ولقتل طموحاتهم الكبيرة، بحيث يجري تقزيمها ومحاصرتها لتتمحور حول لقمة العيش فقط.
الأنظمة القمعية لا تسمح بنشوء طبقة وسطى قادرة على الاستقلال في لقمة عيشها، مثل التّجار وأصحاب المهن الحرّة كالأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم، لأنّ الاستقلال في لقمة العيش وضمانها، يليه استقلال في التفكير أبعد من الرّغيف، وبإمكان الطبقة الوسطى مواجهة الضّغوط الاقتصادية أو الإغراءات المادّية.
لعل قصّة النّمور في اليوم العاشر لزكريا تامر، من أشهر النّصوص التي عالجت ثيمة التّجويع كوسيلة لترويض البشر المتمرّدين، فالنّمر في القفص يستسلم ويرضى بتناول الأعشاب بعد بضعة أيام من حرمانه من اللحم وتجويعه. والأسود في أقفاصها تصبح مطيعة لمن يطعمها. وذلك من خلال تعزيز الثقة بينها وبين الإنسان الذي لا يؤذيها، بل إن حضوره يطمئنها لأنّه يمد لها الطعام.
في سنوات الاحتلال الأولى، كان قد سمح للفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم أن يشاركوا في التصويت للكنيست، وذلك ابتداءً من العام 1949، لأنّهم صاروا مواطنين في الدّولة الوليدة، وكانت أغلبيتهم السّاحقة تصوّت لمرشحي الحزب الحاكم الذي كان ما زال مشغولاً في «تطهير» مئات القرى من الوجود الفلسطيني.
وكانت القوائم العربية مؤلّفة من رجال السّلط، مثل «قائمة العرب والبدو» و»قائمة الزّراعة والتعاون» و»قائمة الديمقراطيين العرب».
يذكر أهلنا أنّ أحد مرشحي البرلمان من حزب السّلطة بزعامة دافيد بن غوريون، جاء إلى قرية عربية في الجليل طالباً الأصوات، وأقام له أحدهم اجتماعاً انتخابياً دعا إليه أبناء حمولته والجيران والأصدقاء. راح مرشّح البرلمان العربي يتحدّث «من حقّنا أن نعيش بكرامتنا»، مركّزاً في خطابه على القِيَم والجوانب المعنوية، ولكن الحضور بالكاد كانوا يجدون قوت يومهم، فمعظمهم قادمون من قرى هُدمت، وما زالوا ممنوعين من العودة إليها أو دخول أراضيهم لفلاحتها، وأكثرهم عاطل عن العمل، ولا يستطيع الخروج للعمل بسبب الحكم العسكري الذي لا يمنح تصاريح إلا للموالين! وبالكاد يُحصّل أحدهم قوت يومه، من خلال توزيع ما سمي وقتها بالإعاشة، وهذه ارتبط الحصول عليها بالولاء للدولة الجديدة، بينما المُرشّح يشدّد على «كرامتنا، وشموخنا، ورؤوسنا المرفوعة»! حينئذ، قام أحد الحضور وقال له «يا حضرة المرشح، معظم الجالسين هنا بلا عمل وقد يجدون قوتهم اليوم ولا يجدونه غداً، باختصار ادفع لكلّ واحد منّا ليرة مقابل صوته، ودعك الآن من قصة الكرامة هذه». كانت الليرة قد حلّت مكان الجنيه الفلسطيني الذي كان يعادل الجنيه الاسترليني.
بعد أن تحمّل الناس في قطاع غزة الغارات والهدم والموت بالجملة، لجأ الاحتلال إلى غريزة البقاء الأولى، التجويع الذي يذلّ الأعزاء.
ومن جميل قول الإمام الشّافعي في مآلات كهذه»:
أرى حُمُراً تَرعى وتُعلفُ ما تهوى
وأسداً جياعاً تظمأ الدّهرَ ولا تُروى
وأشرافَ قومٍ لا ينالون قوتهم
وقوماً لئاماً تأكل المن والسّلوى.