ثقافة وفنون

التخييل الشعري في «جزيرة البكاء الطويل» لعبد الرحيم الخصار

التخييل الشعري في «جزيرة البكاء الطويل» لعبد الرحيم الخصار

محمد العرابي

اللافت عند اقتحام العالم الخيالي لعبد الرحيم الخصار في أول رواية له، «جزيرة البكاء الطويل»، هو حجم الرواية المتوسط (142 صفحة)، قال فيها عبد الرحيم الخصار ما هو أساسي ولم يزد عليه، ولم يفعل على غرار كثير من الأعمال التي تترهَّل بكثير حشوٍ لا يكون غالبا مناسبا أو خادما للسرد. فقد تحكَّم عبد الرحيم الخصار بشكل جيد في تقنياته السردية هو القادم من عوالم الشعر، أي من حقل إبداعي آخر، مختلف عن الرواية. وهذا ما أعتبره نجاحا في أول اختبار له في كتابة الرواية.
ما المقصود بالتخييل الشعري؟ نعني به التخييل غير السردي الذي ينظِّم، بشكل مضمر في الغالب، رؤية الرواية ويجعل منها وحدة دالة، بتقديمه روح الشعر وجانبه الجمالي المشرق المتعارض كليا مع منطوق المغامرة السردية الجشعة واللا إنسانية. هذه المغامرة التي تبدأ بإيقاع قاتم يرسم صورة كالحة عن الحالة العامة لموطن الأزموري المعرَّض للغزو الصليبي والواقع تحت شتى مشاهد السلب والنهب والجوع والاستعباد والموت القهري، لتتوَّج بمشهد بيع الأب فلذة كبده بذريعة إطعام ما تبقى من أطفال، أو إنقاذه بضمان انتقاله إلى عالم آخر قد يكفل له حياة أفضل. مغامرة تقود البطل إلى المشاركة في غزو العالم الجديد بحثا عن الغنائم والذهب. يشهد خلالها أهوالا ومجازر، حتى يصل إلى النتيجة: «لا تشغل بالك بالبحث عن الذهب. ابحث عن نفسك، فأنت هو الذهب»، حيث البقاء على قيد الحياة هو الجائزة الكبرى والبغية النهائية للبطل.
المنظور الشعري المتأصل في العمل سيظهَر في العتبة الأولى ليلوِّن الكون الخيالي ويجعل مصائر أصحاب الأرض الذين ينتمي إليهم مصطفى الأزموري، تتشابه مع مصائر أقوام لا علاقة له بهم إلا برابط الإنسانية، وإلا اشتراكهم في مفارقة الجنس الأبيض الحامل لثقافة مسيحية «تبشيرية». يُرغَم البطل الافريقي، بفعل خضوعه للاستعباد، على الدخول ضمن التركيبة الغازية لآلة لا ترحم. مع التعمق في أجواء الرواية نرى كيف تتم ترجمة الإيحاءات الشعرية المجملة في التصدير، من خلال التغني بحكايات الفرح التي كانت تُنسج حول احتفالات النار، حول زراعة الأحلام والحب، وتصعيد هذه الطقوس في رموز كونية من شمس وقمر ونجوم وأفلاك، لتصير جامعة لكل القبائل، ضامنة لعيشهم، حائلة دون جوعهم:
«أين هم، من وحدهم /كانوا يبذرون الذرة /في ضمائرنا /يرسمون أصواتهم /في دوائر الدخان/ التي تدعو للقاء /وتروي حكاية الفرح؟ /أين من زرعوا أشجار التلاقي /أين هم من نسجوا /رموز الكون /جمعوا القمر والشمس في لحاف واحد /ظل يحفظ أحلامهم الدافئة؟ / أين هم من خطُّوا على الأرض /أن الجوع لن يكون أبدا رفيقنا؟ أين هم أجدادي /من رأوا/هول الكارثة؟». (من أشعار الهنود الحمر، ترجمة وليد سويركي).
النبرة الرثائية التي صيغت بها هذه العتبة، تشيع في أجواء الرواية المصائر المفجعة لكل أولئك الذين لم يعودوا موجودين الآن، والذين تتم استعادة ذكراهم فقط من خلال السؤال الاستنكاري: «أين هم؟» من قبيل هذا التبصر الذي تحكي عنه القصيدة: «أين هم أجدادي» ليروا «هول الكارثة؟» والذي يأتي تفصيله سرديا لاحقا في غمرة الحديث الدائر بين أماريس وأبيها الحكيم الذي يفشي لها سرَّ ابن الشمس، المحكوم عليه بالإعدام بمجرد عودته، وهو ما تنبأ به هؤلاء الأجداد قبل زمن بعيد:
– «إنه ابن الشمس، يا أبي.
– خدعَنا جميعا، يا أماريس. إنه ابن الذهب فحسب، جاء به الجشع… قبل نصف قرن قال جدي في ليلة ماطرة ، سيأتي إلى بلادنا رجال لا يشبهوننا، قد يكون عددهم بعدد حبات المطر الذي ينزل الليلة، لكنهم سيكونون مطرا سيئا». استيفانيكو يا أماريس هو المطر السيئ».
وفيما يشي بوصول السرد إلى إحدى ذراه التي تنذر بانقلاب درامي وشيك، يدفع عبد الرحيم الخصار بالعلاقة العاطفية إلى نقطة حرجة تجمع الأشجان جميعها، ويوجزها بهذا النص الشعري الغنائي الذي تلخصه الجملة الطلبية: «انظروا فقط إلى عينيه»، الدمعة «هي من سيروي الحكاية»: «الرجل الذي يرفع يديه للسماء /وينادي القمر، رجل حزين /الدمعة التي تنزل من عينه /هي من سيروي الحكاية /الرجل الذي صارع البحر /ونزل من سفينة بلا شراع /الرجل الحزين /الذي يسير وحيدا في الطريق/ ويغني للغابات والجبال /لا تسألوه عن شيء /انظروا فقط إلى عينيه / وإذا شئتم ودِّعوه!»، ليتم الحكم بعد هذه الذروة مباشرة، بإعدام الأزموري والتمثيل بجثته. وكان حب أماريس له وهو من أنجاه من الهلاك، ليأتي الوداع تماما كما تنبأ به المقطع الشعري.
وفي مقطع شعري آخر يحاول الكاتب أن يخفِّف جماليا من وطأة العبودية وقسوتها، بإيراد هذا الاقتباس: «صار يدعوني لأضيع في الموسيقى، كما في حلم. يقول لي: «ارقصي، ارقصي يا زاريتيه، لأن العبد الذي يرقص عبدٌ حرٌّ.. طالما هو يرقص». وقد ظللت أرقص دائما». (الجزيرة تحت البحر – إيزابيل الليندي)، فيما يوحي بقدرة الفن التحريرية والمقاوِمة لكل أشكال القهر والاستعباد. لكن قسوة الحقيقة تجعل المرارة باقية وإن تم تغليفها ببعض المساحيق، فطالما استمر الرقص استمر التحرُّر. واستمرار الرقص إلى الأبد هو زعم شعري جميل، لأن الرقص لا محالة منتهٍ، فمقام الانتشاء والسكر قصير، وستعود المرارة لتغصَّ نفس الراقص، فحتى المشاعر لم يكن للعبد الحق بأن يحسَّ بها ويفضي بها إلى الأغيار، فما بالك بأن ينتشي بديمومة الفرح: «بدا لي الأمر غريبا، لكن، ليس المهم أن يحس عبدٌ بالغرابة. كنا فقط ننفِّذ أوامر الأسياد، والأفكار والمشاعر.. همستُ بها فقط لأندريس دورانتيس، فهو الوحيد الذي لم يكن ينظر إليَّ كواحد من العبيد، أو كـ«زنجي» كما صار يردِّد رأس البقرة لاحقا». لكن الشيء الأكثر قسوة هو حينما يستمتع العبد بعبوديته، ويرى في بعض مظاهرها تنفيسا لما هو فيه، ويكتفي بها ولا يسعى إلى حرية حقيقية. فالأزموري مثلا لم يسْعَ إلى أن يشتري حريته: «في المدن الكبيرة كان الهروب ممكنا. وكان شراء الحرية أيضا ممكنا، تشكلت بعض الأخويات من العبيد المعتقين، الذين عملوا على جمع المال لتحرير الآخرين. كانوا يستغلون كل عيد أو حفلة ليجمعوا التبرعات، وعلى الرغم من ذلك لم يكن عتق الجميع ممكنا، فالعبيد كثر والمال قليل»، بل اكتفى بأن يبقى ظلا لسيده، هو الذي زعم بأنه حظيَ بكل المزايا وبكل التشريف.
وسأختتم بمثال واحد يؤكِّد أن الروح السارية في جميع الرواية هي روح شعرية بامتياز.
العتبة الأولى للرواية، العنوان «جزيرة البكاء الطويل»، نفسها من المؤشرات القوية على أن الشعري يسبق السردي ويحكمه، رغم أن تدفُّق الأحداث وجريانها، يقول العكس. تشتقُّ هذه الجزيرة اسمها من العذابات والأهوال التي مزقت صدر الإنسانية وغرزت أول مسمار في نعش الحضارة المعاصرة، التي تنزف الآن، وتوشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة نتيجة أهوال القتل والإبادة التي تجري على أرض غزة، والتي ليست إلا استكمالا لما جرى في الزمن القريب للشعوب الأصلية في أمريكا. كما لو أن عبد الرحيم الخصار يستبطن عذاباتنا اليوم مع الحضارة الغربية:
«جزيرة القدَر المريض»، هكذا سمَّاها «رأسُ البقرة»، بسبب عذابه، وعذاباتنا معه هناك. بينما سماها دورانتيس «جزيرة البكاء الطويل»، بسبب عذابات الهنود». ولأجل أن يوازن عاطفيا وجماليا بين هذه المآسي، يلقي بهذا التخييل الشعري الشفيف، الذي لو اجتزأناه عن سياقه وأطرناه بجنس الشعر، لاعتبر قصيدة نثرٍ أو نصا شعريا مكتمل الأركان. فهو في غرائبيته وعجائبيته غير قابل للتصديق، ولو أنه قابل للتفهم وحصد التعاطف مثلما تفعل كل الفنون:
«لم يكن البكاء في تلك الجزيرة يشبه البكاء في أي مكان آخر، حتى في الحب، وفي لحظات يفترض أنها لحظات فرح، يحضر العويل والنشيج، حين يلتقي الشاب مع حبيبته في أحد أطراف الجزيرة يجثوان على ركبهما قبالة بعضهما، ويشرعان في البكاء لنصف ساعة تقريبا، يبكيان بعيون مغمضة، وبشفاه مطبقة على بعضها ونحن غير قادرين على إدراكها، وبعبارة أكثر تجليا، غير قادرين على تصديقها». وإمعانا في التخييل الشعري، يدَّعي الأزموري أنه هو نفسه اختبر هذا البكاء حينما خرج من كابوس مزعج رأى نفسه فيه يُشوى على نار الهنود، وينطلق في الصراخ من شدة الألم: «وجدت نفسي أجلس بجانبهما، وأبكي بكاء حارا وطويلا مع نحيب لا يكاد ينتهي. وحين توقفا هما عن العويل لم يكن بمقدوري أن أتوقف مثلهما».
هكذا يضفي هذا التخييل الشعري على عمل عبد الرحيم الخصار الروائي نوعا من جمالية الجليلsublime بالمعنى الكانطي الذي يميزه عن الجميل، من خلال هذا الفعل الشعري الذي يعبِّر عن المهيب والمرعب بمجرد البكاء، أي بفعل لا هو بجميل ولا هو بممتع، ومع ذلك يبلغ في تأثيره مفاعيلَ يضاهي بها قساوة ما ينتجه الواقع من انتهاكات وترويع. البكاءُ مقابلَ الجوعِ والمرض والجشع والاغتراب، بكاءُ الإنسانية على نفسها قبل أن تصبح أثراً بعد عين: «صار البكاء قدرا طويلا في هذه الجزيرة».

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب