
لوبيات الدعاية الأدبية: القوة الخفية وراء الأدب

مروان ياسين الدليمي
في الهامش حيث تبدأ الحكايات الحقيقية، لا في متون النصوص، يُكتب سرُّ الأدب الحديث. ففي حين نُسلّم، بخنوع مثالي، بأن الموهبة وحدها تفتح أبواب الخلود الأدبي، تُحاك خلف الستار خيوط لعبة أكثر تعقيدا، لا تعترف بالنص قدر ما تعترف بمن يروّج له، وبأي نبرة، ولأي جمهور. ليست المسألة في جودة الكتابة، بل في من يمتلك مفاتيح الإضاءة. هناك، في الظلّ، تتحرك دوائر خفيّة لا تَكتب ولكن تُقرّر من يُقرأ، ولا تُبدع ولكن تُهندس الذوق، وتعيد تشكيل الهرم الثقافي كما يُعاد ترتيب الأثاث في صالون مغلق. «لوبيات» لا تستأذن أحدا، تتكوّن من ناشرين بنظرات استراتيجية، ونقاد يرتدون أقنعة الاستقلالية، ومن لجان جوائز تكتب الأسماء الفائزة قبل أن تُقرأ النصوص. إنها القوة التي لا تُرى ولكن تُحَسّ، لا تتحدث لكنها تجعل الآخرين يتكلمون باسمها، تُجري عمليات تجميل للأدب، فتُعيد تشكيل ملامحه بما يناسب السوق، المزاج، المرحلة. إنها ليست مؤامرة، بل هي نظام دقيق يشتغل بلا انفعال، كآلة عتيقة تعرف هدفها: تحويل النص الأدبي من تجربة إنسانية معقّدة إلى منتَج قابل للتداول، ممهور بالختم الرسمي للجدارة، حتى لو كان صوته خافتا حدّ الاختفاء.
ما هي لوبيات الدعاية الأدبية؟
ما الذي يجعل كتابا ما يطفو على سطح المشهد الثقافي، بينما يغرق غيره في النسيان؟ ليس الجواب دائما في عمق الفكرة أو جمال الأسلوب. فهناك، تحت جلد الحراك الأدبي، شبكاتٌ محكمة النسيج تُدير حركة الضوء، وتحدّد من يستحق البقاء في العلن ومن يُدفع إلى العتمة. لوبيات الدعاية الأدبية ليست كيانا واحدا، بل هي سلسلة غير مرئية من العلاقات والمصالح المتشابكة. أفراد ومؤسسات، ناشرون بجيوب ممتلئة وشهية للتأثير، نقاد يعرفون كيف تصاغ الكلمة لتهدم أو تُعلي، ولجان جوائز تُحسن لعبة الاختيار حينا وتُخضعها لحسابات دقيقة أحيانا. قد لايجلسون جميعا حول طاولة واحدة، لكنهم يشتركون، بوعي أو دونه، في إعادة توزيع الخريطة الأدبية على مقاس ما هو مرغوب فيه، لا بالضرورة على مقاس ما هو عظيم.
فليس غريبا أن تتسلل بعض النصوص إلى قمة الجوائز الكبرى، نوبل، بوكر، غونكور، لا لأنها استثنائية من حيث الفن، بل لأنها محاطة بهالة دعائية مُحكمة، أو مدعومة بشبكات تعرف متى تُصفق، وكيف تزرع الكاتب في ذاكرة القارئ، كأنه كان هناك منذ الأزل. هذا لا يُقصي الحقيقة القائلة إن بعض الكُتاب يستحقون ما نالوه، لكنه يُنبّهنا إلى هشاشة ميزان التقييم حين تميل كفّته لصالح الضجيج المنظّم لا الصفاء الإبداعي. وهكذا، يصبح السؤال الأهم: هل نحيا زمنا يُقرأ فيه النص لأنّه جيّد، أم لأنه مُوصى به؟
كيف تعمل اللوبيات؟
حين نُزيح الغلاف اللامع للنجاح الأدبي، نكتشف أن خلفه ماكينة دقيقة، باردة في حساباتها، تعرف تماما كيف يُصنع النجم من ورق، وكيف تُروَّج الجملة كما تُروَّج السلعة. هذه ليست صدفة، بل هندسة مدروسة، تُشغّلها لوبيات تعرف أن الأدب، في زمن السوق، لا يكفيه أن يكون جيدا، بل يجب أن يكون مرئيا، محاطا بالضجيج الصحيح. أول أسلحتهم: التسويق المكثف. لا تُترك الكتب لتتحدث عن نفسها، بل يُبنى حولها جدار من الإعلانات، تُفتح لها أبواب البرامج الثقافية، وتُرتَّب لها جولات توقيع كأنها حملات انتخابية. الكاتب لا يعود مجرد كاتب، بل يصبح «وجها» يُسوَّق، يُلمَّع، يُعاد تشكيله، حسبما يقتضيه المزاج العام. ثم تأتي العلاقات الشخصية، تلك الشبكات الناعمة التي لا تظهر في السيرة الذاتية، ولكنها تحسم الكثير. فكاتب يعرف من يصافح في المعارض، من يُجامله في الندوات، من يرسل إليه النسخة الموقّعة مبكرا، هو كاتب يضمن لنصه صدى يتجاوز حدوده. الكلمات تُسمع أفضل حين تُقال من أفواه المؤثرين.
أما الجوائز الأدبية، فهي الضربة القاضية أو التاج النهائي، لحظة التتويج ليست فقط لحظة تقدير، بل لحظة تحويل: من كاتب إلى رمز، من نص إلى ظاهرة. القارئ، أمام كتاب نال جائزة مرموقة، لا يسأل كثيرا عن المضمون، بل يُسلّم كأنه تحت تأثير مغناطيسي بأن القيمة موجودة لأن المؤسسات قالت ذلك. وهكذا، تتحرك اللوبيات كعازفين ماهرين في أوركسترا واحدة: ينسّقون الإيقاع، يختارون النغمة، ويتركون لنا الوهم بأننا نستمع إلى موسيقى الحقيقة.
تأثيرها على القارئ والأدب
للوهلة الأولى، قد يبدو أن لوبيات الدعاية الأدبية تقوم بعمل نبيل: تسلّط الضوء على كاتب كان مجهولا، تدفع بعمل خافت إلى واجهة المشهد، وتمنح القارئ فرصة اكتشاف ما لم يكن ليصل إليه وحده. لكن النبالة، هنا، مشروطة. فهي لا تُمنح إلا لمن ينسجم مع نغمة الجوقة، أو لمن يعرف كيف يُقدّم نفسه كما تُقدَّم السلع ذات العبوات المغرية. في الجانب المعتم من المشهد، يقف الكاتب المستقل، المُجرّد من أدوات النفوذ، يطرق أبواب النشر بصمت، يترك نصوصه تتحدث وحدها، في زمن لم يعد ينصت فيه أحد للكلمات غير المدعومة. موهبة بلا شبكة، إبداع بلا مموّل، صوت بلا مكبّر.. كلّها تُختزل اليوم في خانة «غير قابل للتسويق». أما القارئ، فإنه لا يعود قارئا حرا تماما، بل مستهلكا يتبع إشارات الضوء. ذوقه يُعاد تشكيله دون أن يشعر، يتجه نحو ما تُلمّعه الصحافة الثقافية، وما تروّجه الجوائز، وما يُوضع على واجهات المكتبات الكبرى. هكذا، ينشأ نمط جديد من القراءة: قراءة مشروطة بما هو رائج، لا بما هو صادق، متماهية مع «الموضة الأدبية» لا مع الذات القارئة. النتيجة؟ طوفان من الكتب التي تُقرأ لأن أحدا قرأها قبلنا، لا لأنها تُشبهنا أو تقول شيئا عن حياتنا. كتب تُرفع إلى مصاف الرموز، ثم تُطوى بصمت، بلا أثر. إنّه مشهد يُشبه حفلا صاخبا، نغادره دون أن نتذكر الموسيقى.
التأثير على الهوية الثقافية
حين تُمسك اللوبيات بمقاليد الثقافة، لا يقتصر الأمر على تلميع أسماء أو ترويج أعمال، بل يتعدّاه إلى ما هو أخطر: إعادة تشكيل الهوية نفسها، كمن يُعيد كتابة الذاكرة بلغة لا تشبه أهلها. في المجتمعات التي تستورد سردياتها من الخارج، تصبح هذه القوى أشبه بعدسة مشوّهة ترى بها الذات نفسها، وتعيد تعريف من تكون، لا وفقا لما عاشته، بل وفقا لما يُراد لها أن تصدّقه عن نفسها. إنّ ما يُقدَّم على أنه «ثقافة عالمية كثيرا ما يكون ثقافة مُعلّبة، مُنتَجة في مراكز النفوذ، ثم تُسوَّق على أنها النموذج الذي يجب احتذاؤه. وبهذا، تُفرض رؤى لا تمتّ إلى الواقع المحلي بصلة، ويُطلب من الجمهور أن يرى نفسه في مرايا الآخرين. فتتآكل الصلة بالجذور، وتخفت الرواية الداخلية لحساب رواية مستوردة، مشبعة بالاختزال، والانتقاء، والتسويق الخادع.
في زمن العولمة، حيث تتداخل الحدود وتُختزل الهويات إلى رموز قابلة للتداول، تصبح اللوبيات أدوات فعّالة في ترسيخ هيمنة ثقافية ناعمة، لا حاجة للقوة ما دامت الصورة تكفي، وما دامت «المرجعية العالمية» تُقدَّم بوصفها قدرا لا مناص منه. هنا، لا تُصادَر فقط حرية التعبير، بل يُعاد صوغ الذوق، والوعي، والانتماء، على نحو يُحوّل الثقافة إلى واجهة عرض سياسية واقتصادية مغلّفة بشعارات الجمال. وليست هذه الظاهرة عابرة، بل زلزالا بطيئا يُعيد تشكيل التضاريس الروحية للمجتمع. تختنق الأصوات الأصيلة، وتُهمَّش التجارب التي لا تنسجم مع المزاج السائد، ويُعاد تعريف «القيمة» بمقاييس لا علاقة لها بالحياة أو الصدق أو المعاناة. وهكذا، تنقلب الثقافة من فضاء حرّ للتفكّر إلى سوق مغلق تحكمه الصفقات والمصالح..
تاريخ القوة الخفية للوبيات في صناعة المشهد الثقافي
لم تكن الثقافة عبر الأزمنة مجرد زبدة إبداع عفوي تفيض من نبع الإنسان، بل كانت ساحة تصارع خفية تتشابك فيها المصالح وتتقاطع فيها القوى. في قلب هذا الصراع، برزت اللوبيات كقوى خفية، غير معلنة، تشكّل المشهد الثقافي وفق رؤى تتجاوز الفن إلى السياسة والاقتصاد والدين. من الممالك القديمة حيث كانت البلاطات تفرض على الشعراء ألحانها، إلى العصور الوسطى التي صيغت فيها الصورة الرسمية للمعرفة والهوية، مرورا بالعصر الحديث، حيث استُخدمت الثقافة كأداة للحكم الناعم، تظهر هذه القوى كأنظمة تُعيد رسم الأذواق وتُشرف على صناعة الرأي. ليس فقط عبر دعم نصوص بعينها، بل عبر إقصاء ما يهدد النظام القائم أو يُزعج التوازن المصطنع. يمكننا أن نرصد هذه العمليات عبر تاريخ طويل، حيث يُعاد تشكيل ما نعتبره «تراثا ثقافيا» ليس فقط بمقدار ما هو جدير بالحفظ، بل حسبما يخدم مصالح نخب تملك مفاتيح القوة. هي عملية لا تنفك تكشف أن الثقافة ليست فقط مرآة تعكس المجتمع، بل ساحة تُعاد صياغتها باستمرار، حيث تتصارع الأصوات الحقيقية مع أصوات مدفوعة بمصالح. وهكذا، حين ندرس تاريخ المشهد الثقافي، لا يكفي النظر إلى الأعمال وحدها، بل يجب أن نغوص في طبقات النفوذ التي تحركها هذه اللوبيات، لنفهم كيف يُبنى الذوق، كيف تُرسخ الأساطير، وكيف يُحفظ الموقع لمن يريدون السلطة حتى في أرقى مجالات التعبير الإنساني.
العصر الرقمي: اللوبيات في زمن الخوارزميات
مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، أخذت اللوبيات الثقافية شكلا جديدا أكثر تعقيدا ورقمنة، حيث بات الفضاء الرقمي مسرحا لصراع خفي بين الأصوات والمصالح. لم تعد السيطرة مقتصرة على الناشرين أو الجوائز، بل انتقلت إلى الخوارزميات التي تتحكم في ما يصل إلى أعيننا وآذاننا، فتروّج لمحتوى يُحسب وفق معايير تجارية وسياسية دقيقة، بينما تُدفن الأصوات الأقل شعبية في الظلّ الرقمي، غير المرئي.
في عالم تتسارع فيه وتيرة الإعلام والتسويق الإلكتروني، تصير هذه اللوبيات أكثر قوة وتأثيرا، تتخذ من البيانات والسلوكيات أدوات تحكم ذكية تفرض أجندات مخفية، فتغلف المحتوى الأدبي بطبقات من الدعاية الخفية التي لا تكاد تُرى. على القارئ أن يظل يقظا، متسلحا بالفضول والوعي النقدي، ليميز بين النصوص التي تلامس الروح، وتلك التي تُفرض عليه عبر شبكات التواصل والخوارزميات. ولئن تبدو هذه الظاهرة حديثة، فإن تاريخ اللوبيات الثقافية يعيدنا إلى حقيقة ثابتة: الثقافة لم تكن يوما نتاجا عفويا بريئا، بل نتيجة معقدة لتفاعل بين الإبداع وقوى السلطة. من الكهنة في المعابد القديمة إلى الناشرين في عصر الطباعة، ومن الصالونات الأدبية إلى الجوائز الإعلامية، وصولا إلى الخوارزميات الرقمية اليوم، ظلت هذه القوى تُشرف على ما نراه، نقرأه، ونصدّقه.
ومع كل هذا، تبقى الحقيقة الأعمق أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يعيش في وجدان القارئ، مستقلًا عن اللوبيات، متحررا من الضجيج، قادرا على الحفر في أعماق الإنسان، مهما تآمرت عليه قوى الظلّ.