ثقافة وفنون

سؤال الإنسانية… الادعاء والواقع

سؤال الإنسانية… الادعاء والواقع

رامي أبو شهاب

في أحد الأفلام بعنوان «الحدث» للمخرج م. نايت شيامالان، ثمة قدر كبير من الابتكار في قراءة معضلة الإنسان، وعلاقته بذاته والآخر والبيئة. تنهض حبكة الفيلم على وباء يصيب البشر مصدره الأشجار، التي سرعان ما ندرك أنها قد اتخذت قراراً بمعاقبة البشر على سلوكهم تجاه البيئة والطبيعة، من خلال مادة تنشرها في الهواء. هذا يأتي ضمن توصيف يبدو أقرب إلى الانتقام أو العقاب. ولعل الشاهد في الموضوع يتجلى في تلك المفارقة التي تنشأ عن أكذوبة الإنسان، بوصفه تكويناً متعالياً في سُلَّم الكائنات الحية، إذ يحتكر المعنى والنموذج القيمي، ولكنه في معظم الأحيان يفشل في اختبارات إنسانيته تجاه الإنسان منذ بدء التاريخ، وهنا تتكشّف الكارثة، حين يصر الإنسان بداعي غطرسته الوجودية، على أن يضع ذاته مركزاً محيّدا ما عداه، ومتوهماً امتلاك المعنى، فيما الكون يصمت تجاه وهم أخلاقي صنعته الحداثة التي تنطلق من الوعي بالذات الخارقة، ومع ذلك فإن هذا النهج بدا قائماً منذ الأزل، غير أن التقنيات الحديثة أسهمت في خلق ممارسة شديدة العنف تجاه الكائنات الأخرى، بيد أن المفارقة الأكثر ألماً حين تنزع صفة الإنسانية عن شعب ما، فيستباح قتلاً وتجويعاً، والعالم عاجز عن إيقاف ذلك، أو عقاب الجاني كما فعلت الأشجار.
إن مفهوم الإنسانية لا يبدو متجانساً أو متساوياً من وجهة نظر الإنسان، فالبعض يجعل الإنسانية، أو الإنسان نتاج ثقافته الخاصة، أو بمعنى أدق تفسيره، فليس كل من ينتمي إلى الجنس البشري، يعد إنساناً من قبل البعض، فبعض الأمم والشعوب تقصر المعنى أو تعريف الإنساني على جزئية عرقية أو دينية أو قومية ما، وعليه فهي تستبيح المخالف، أو الآخر بحيث تنزع عنه الصفة الإنسانية بداعي تفوق ما، كأن يكون الشعب المختار، أو العرق الأنقى، أو الطائفة، أو الدولة الأقوى. قد تتكشّف إحدى معضلات التوصيف الإنساني في التعريف والمعيارية؛ فالإنسانية لا يمكن النظر إليها بوصفها مفهوماً متجانساً، إنما هي تخضع لاعتبارات ثقافية في معظم الأحيان، ولهذا فإن التصنيف بمعنى «الإنسان»، أو «الكائن الحي» لا يعدو سوى توصيف بيولوجي من قبل البعض، بينما تبدو الإنسانية معطى معرفياً وثقافياً شديد التعقيد. وإذا افترضنا أن مفهوم الإنسانية ينهض على توافق كلي حول معنى «الحق الإنساني» القائم على منظومات وعهود ومواثيق وقوانين، فإنها تظل في المجمل صناعة إنسانية، ولهذا فهي عُرضة للتأويل والخرق من حيث التوصيف والممارسة، كونها تخضع لنموذج انتقائي، أو أنها تبقى جزءاً من منظومة القوة والسلطة كما المال.

الإنسانية بقيمها المتعالية لا يمكن أن تتجزأ، أو أن تتعرض للتأويل، وإذا كانت مرجعية الفكرة تكمن في النص أو الخطاب بوصفه المرجعية، فإن تأويلها يبدو جزءاً من ماهية الإنسان في نقصه، وقصر نظره. وغالباً ما نرى أن اختراق النموذج الإنساني بوصفه «حقاً» إنما يتم من قِبَل من وضع تأطيره ضمن سلطة الخطاب، ونعني الغرب الذي صاغ المفهوم، ولكنه فقد بوصلة الممارسة. إن المنظور الإنساني في الغرب لا يخضع لنموذج قيمي بالأساس، إنما لمنظومة قانونية وضعية ينبغي احترامها بصفة توافقية، غير أنها في النهاية تظل جزءاً من ذات لا تعترف بقصورها كونها انتقائية. وفي غزة تنتهك الإنسانية في مشهد لا يمكن للعقل القيمي أن يتفهم هذا العجز عن المحافظة على مفهوم الإنسان، ومن هنا ينبغي أن نوجّه النقد للغرب الذي يتعامى بتحيّز واضح لصالح سلطة المال، والقوة، والجماعات الضاغطة متجاهلاً قيمه الأساسية.
من الجهة الأخرى يبدو تعامي العربي عن الدفاع عن الإنسانية في غزة، مشكلة مركبة؛ فالعقل العربي، ضمن الذاكرة الخطابية التراثية ينهض على تكريس منظومة ثقافية، اعتمدت القيمة الأخلاقية بوصفها رديفاً للإنسانية، بالتوازي مع مرجعية دينية تنهض على تكريم حياة الإنسان، وحرمة دمه، كما يمكن تأطيرها بثقافة عربية ذات تقاليد وعادات تنهض على مفهوم الجوار، غير أن هذا يبدو أيضاً انتقائياً، ولا يتصل بممارسة تستجيب للخطاب، فلا شيء يتحقق فعلياً من حيث «النُّصْرة» ونجدة المظلوم، والشهامة والمروءة، التي بدت مجتمعة فاقدة لمعناها على المستوى العملي، ناهيك من تناسي الأساس القومي والتاريخي، الذي شكّل هذه المنظومة الأخلاقية في إطار كنا نعتقد أنه أكثر من كافٍ لأن يحفظ إنسانيتنا، ولو من باب الأمة الواحدة التي لم تعد أمة.

لعل هذا السكوت عن تجويع وقتل أكثر من مليوني إنسان في منطقة محدودة، تحت قصف مستمر لم يتوقف منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بالتوازي مع تجربة اختبار اللجوء في المكان ذاته، ضمن واقع غير مسبوق في التاريخ المعاصر أو الحديث، حيث لأول مرة يُحكم على شعب بأن يعيش في غيتو كبير، يُقصف ويجوَّع ليلاً ونهاراً، ولا مفر، ولا نجدة، سوى استنزاف الإنسانية الوهمية، عبر نداءات واستجداءات لا تحركها أجساد الأطفال، وقد جردوا من اللحم، وبعيون خاوية تنظر إلى الفراغ. في هذا العالم الذي بدا كما لو أنه يشهد نسخته الأسوأ من ذاته، تغدو مفردة «الإنسانية» خاوية، بلا نبض أو وعي، هي أقرب إلى عجز فادح من ناحية تأطير هذا المفهوم داخل الفعل، لاسيّما حين يُقاس الفعل على محك الواقع، لا الخطاب. فرغم أن البشرية راكمت، عبر قرون، منظومات قانونية وأخلاقية لتكريس الحق الإنساني، إلا أن ما يحدث في غزة يكشف عن نكوص حضاري يضرب في الصميم جوهر هذه الحصيلة. فالجريمة هناك لا تنتمي إلى الماضي، بل إلى زمن تجاوز الوحشية نفسها، بمعنى زمن ترتكب فيه الإبادة لا باسم البربرية، إنما باسم القانون الدولي العاجز، أو بتواطؤ الصمت. وعلى الرغم من أن التاريخ لا يخلو من فظائع، فإن ما نعاينه الآن يتجاوز البشاعة، لأنه يُمارس في ظل الوعي، ويبرر باسم التقدّم. وهكذا، تُهشم فكرة الإنسان من داخلها، وتغدو الحداثة مجرد ستار لإعادة إنتاج الجريمة، ولكن هذه المرة بوجه ملوّن بالديمقراطية، والكثير من التسويف.

ولعلّ هذا ما يذكرني بأفكار حنة أرندت، بخصوص مفهوم حقوق الإنسان الذي سرعان ما تهاوى أو انهار، حينما نشاهد ما يحصل في غزة، إذ لم يتبق من صفاتهم سوى بشريتهم البيولوجية، حيث جردهم الكيان من إنسانيتهم، غير أن التجريد الأكثر ألماً أتى من الشاهد على الجريمة، من هذا العالم المدعي للإنسانية ضمن أطر قانونية وأخلاقية. هذا أشبه باختبار مرير لحقيقة هذا المفهوم الذي طالما بُني على تصور انتقائي، أو أنه مشروط بانتماء سياسي، لا بجوهر الإنسان، ونكوصه لمبدأ الحيوانية البشرية. إننا لم نعد بإزاء غياب العدالة، إنما بحقيقة واضحة تنهض على موت الضمير، حيث ترتكب الجرائم لا في العتمة، أو في الظلام، أو حتى خلف ستار، أو بشيء من الخجل الإنساني، بل في وضح النهار، أمام كاميرات العالم الذي يراقب، على ما يبدو إن هذا الوحش المشوه يرغب في تكريس وجهه الدموي لإخافة العالم، ولم يعد يأبه بالقناع، الذي خادع فيه العالم لعقود، على الرغم من أن غزة كشطت طبقاته المتآكلة، ومع ذلك فإن بعض العرب الساذجين أقنعوا أنفسهم بأخلاقيته، وديمقراطيته المزعومة، فصمتوا كما لم يصمتوا من قبل.
كاتب أردني فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب