محمد أمين الحوامدة: أزمة الترجمة العربية نابعة من غياب المنهج والهوية

محمد أمين الحوامدة: أزمة الترجمة العربية نابعة من غياب المنهج والهوية
أجراه: أحمد عزيز الحسين
يترافق ازدهار الترجمة عادة مع انفتاح الهوية على الآخر، ويتوازى مع رغبة عارمة في التعلم منه، والاهتداء به في كيفية نهوض أمة ما، في حين تفضي الترجمة المتعثرة إلى تشكيل هوية منغلقة على ذاتها، وعلى رغبة عارمة في النكوص إلى الماضي، والاكتفاء بما أبدعه الأسلاف، أما معيار الانفتاح والانغلاق فهو المنهج العلمي النقدي، الذي يمكن الاتكاء عليه في اختيار نوعية ما يترجم، والاستراتيجية التي ينبغي العمل بها لتحقيق ذلك.
وقد أدارت معظم الجامعات والمؤسسات الثقافية العربية ظهرها إلى هذا المنهج، ولم تعمد إلى تشكيل هيئات، أو لجان مختصة بالترجمة والتأليف والنشر، وفتحت الباب واسعا أمام المتطفلين على صنعة الترجمة تماما، مثلما حصل في كليات الجامعات العربية وأقسامها المختلفة؛ ولذلك لم يتكون لدينا حتى الآن ما يسمى بـ(نقد الترجمة) الذي ينبغي أن يستقل عن النقدين الأدبي والصحافي، كما ساد (منهج الكم) و(قانون السوق) على آلية الاختيار، مما تحتاجه الأمة لكي تنهض من جديد، وتراجعت الترجمة، إنْ لم نقل إنها انعدمت أو كادت تنعدم. والترجمة المبدعة، في ظني، هي وحدها القادرة على أن تثري الهوية العربية، وترتقي بها بما يتوازى مع التحديات التي يواجهها المجتمع العربي المعاصر.
حرصا على تسليط الضوء على قضايا الترجمة وتعزيز حضورها الفاعل في المشهد الثقافي العربي المعاصر، أُجري هذا اللقاء مع الأكاديمي والمترجم الأردني الدكتور محمد أمين الحوامدة، الأستاذ المشارك في دراسات الترجمة بجامعة مؤتة في الأردن. يحمل الدكتور الحوامدة درجة الدكتوراه في دراسات الترجمة من جامعة مالايا (University of Malaya) في كوالالمبور بماليزيا، وهو عضو في جمعية المترجمين الأردنيين، والاتحاد الآسيوي للمترجمين. يعمل أيضًا محاضرًا في دراسات الترجمة واللغويات التطبيقية في المعهد العالمي للتجديد العربي.
شارك في العديد من الملتقيات والمؤتمرات العربية والدولية في كل من ماليزيا وتركيا وألبانيا والجزائر، وأشرف على عدد من رسائل الماجستير. كما نشر أبحاثًا متعددة تناولت قضايا الترجمة وممارساتها، وأسهم في تحكيم عدد من الدراسات العلمية المتخصصة في هذا المجال.
راهن الترجمة العربية
وجوابا عن السؤال الأول الذي طرحناه عليه حول واقع الترجمة العربية في الوقت الراهن، قال الحوامدة: إن الترجمة في العالم العربي تواجه اليوم أربع قضايا، بعضها نافذٌ إيجابا بقدر ما، ونشاهده حاصلا متحققا بدرجات متفاوتة، وبعضها الآخر ساكنٌ سمته ضيق الأفق، وضعف الهمة من جهة، وضبابية الرؤية أو رفض التطوير من جهة أخرى. وتخص اثنتان من هذه القضايا الفعل الترجمي نفسه، في حين ترتبط القضيتان الأخريان بأثر الترجمة ونقدها؛ وفي رأيه أن فردية الجهد هي رأس الإشكالية التي تعاني منها بلداننا العربية عموما؛ وأن هذه البلدان تفتقر إلى النظام اللازم الذي يحدد أسس الفعل الترجمي وخصائصه وأنماطه، إذ لكل فئة أو فرع منها جهازٌ أو نقابة أو رابطة أو اتحاد يرعى شؤونه، ويعالج موطن الاختلال فيه، كما أن لكل جهاز قوانينه الناظمة ولوائحه التنفيذية، التي تصادق عليها السلطات العليا في العالم العربي. أما ما يخص أثر الترجمة ونقدها، فيمثل كلاهما، في رأيه، إشكالية عربية هي، أيضا، مترابطة، وتنشأ عما أوضحه من معضلة الفعل؛ ذلك أن الأثر هو تأثير الترجمة من العربية وإليها في الواقع العربي، أما الترجمة من العربية إلى لغات أخرى، فتساهم في تشكيل ظروف المثاقفة اللازمة بين الأمة العربية والأمم الأخرى، وتتيح لهم أن يطلعوا على الثقافة العربية الإسلامية، ويعرفوا حجم عراقتها وأصالة بنائها الحضاري. وفي رأيه أن أثر الترجمة في مجتمع ما، كبيرٌ ولا حد له؛ ويمكن أن تنهض به الأمة، وتستثار به همم الباحثين والعارفين، بغية تعزيز ما لديهم من ثقافة وعراقة وحضارة وتاريخ. وهذا الأثر دليل الفعل الترجمي نفسه، ولا يكون أصلا إلا بتراكم معرفي وصل إلى مستوى كبير من النضج، واستوجب انفتاحا ينبغي أن يضبطه الناقد بدراسة مساوئه قبل محاسنه، وفي ظنه أيضا أن الترجمة التي تنفع قد تضر أيضا؛ وهذا يستدعي الحديث عن «نقد الترجمة» على مستويات أربعة من تحليل النص الأصل، والنص الهدف ومقارنتهما، وضمان جودة الترجمة، في جهود فردية أو مشاريع جمعية قد تفضي إلى تأسيس النقد الترجمي العربي.
نقد الترجمة وتشكيل الهوية
وللتفصيل في الحديث عن القضية السابقة ذكر الحوامدة أن الترجمة عاملٌ مهم من عوامل التقدم في مجالات الفكر والمعرفة وبناء الهوية، كما أن دورها، في رأيه، كبيرٌ في تبادل المعارف والثقافات والعلوم، من خلال تبني مناهج تعليمية فعالة، بغية تحقيق التوازن في الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، وتعزيز الانتماء إلى الهوية العربية المعاصرة. لاسيما وأن هناك بلدانا عديدة تحاول إحكام هيمنتها على الشعوب الأخرى، لكي تضمن السيادة لثقافتها، وتصبح مرجع المعرفة ومصدرها؛ ولهذا تنشأ أزمة الترجمة في رأيه من أزمة ثقافية ناتجة في الأصل عن أزمة لغة؛ ما يستدعي سياسة ترجمية تسهم في الانفتاح على العالم بشكل إيجابي. كما أن تعددية اللغة وعدم الخوف من تعليم اللغات الأجنبية، أو إجراء البحوث العلمية تعد إثراء للإنسان العربي لا تهديدا لهويته؛ ذلك أن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل بين أفراد مجتمع ما، وإنما هي، في رأيه، منظومة ثقافة وهوية تحمل في طياتها فكرا قوميا ونهجا اجتماعيا سيمنع أي محاولة إحلال أو هيمنة قد تؤثر في آلية تشكيل الهوية.
السياق المأزوم لنقد الترجمة
وجوابا عن سؤال يتعلق بمفهوم «نقد الترجمة»، والغاية من سبره وتفكيكه في الوقت الحالي، قال الحوامدة: إن نقد الترجمة يختلف عن مجرد قراءتها أو إعادة النظر فيها؛ كما أن الأخيرة جزءٌ من الأولى، أو هي حلقة من حلقاتها، وقراءة الترجمة (بمعنى مراجعتها) تعني دراسة الجديد، أو الحالي من إصدار معين، في حين يدرس الناقد جديد الأمر وقديمه، في حالة جدلية منضبطة تحقق أثرا اجتماعيا أو فعلا سياسيا ما؛ هكذا يغدو النقد أعم وأشمل؛ لأنه دراسة نظامية تشمل تقييما أو تفسيرا لمختلف مناحي العمل المترجم، ولهذا يرتبط «نقد الترجمة» بالنقد الأدبي ونظرية الترجمة. ويقوم الناقد عندها بتوصيف المنتج الترجمي وتفسيره وتوضيحه على الصعد المعالجة للألفاظ، وحجم الأيديولوجيا فيها، والبنى اللغوية، وما تتضمنه من علاقات قوة ووظائف لغة، ثم بيان مدى السبك والاتساق في النص جزئيا وكليا. وإذا كانت الترجمة حدثا اتصاليا يخضع عندئذ في دراسته لتحليل مقالي ومقامي، ويتكئ على عوامل اللغة الأخرى من نحو وصرف وصوت وبيان، ويغدو نقدها موازيا للحكم على قيمة العمل المترجم، فضلا عن أنه يصبح معززا بالتصريح والتدليل، كما يرى فيغيو. وفي رأيه أن نقد الترجمة في العالم العربي موجودٌ على الأرض وعلى مستويات عدة، لكنه غير محكوم بأي ضوابط إدارية ملحوظة، أما المستويات النقدية له فهي في رأيه:
تحليل النص الأصل من حيث غرض المؤلف، وتوجهاته، وسمات جمهوره، ونوع النص (وصفا وإخبارا وإرشادا وإقناعا)، ومدى جودة اللغة المستخدمة فيه حبكا وسبكا، وردة فعل القارئ عليه وفق مبادئ النصية، أو سلامة النص من حيث نوعيته وكميته وارتباطه بالواقع المعيش، واقترانه بما يكتب في زمانه ومكانه.
تحليل غرض المترجم، وأسلوب كتابته في جعل اللغة قديمة عريقة، أو حديثة معاصرة، ومدى تدخله في متن النص بالحذف أو التبديل أو الإضافة.
إخضاع النصين (الأصل والهدف) للمقارنة، من حيث عديد الخواص اللفظية والنحوية والصرفية والسياقية والأسلوبية والبلاغية والتداولية وغيرها مما يرتبط بكلا النصين.
تقييم الترجمة أو تقويمها، وفق ما يراه الناقد ملائما، وحسب توجهاته بما يشمل:
*طرح ما يلزم لتحسين مستوى جودة النص أو النصوص المترجمة لغويا وثقافيا بصفته حدثا تواصليا.
*ثم التوصية لصانع القرار المعني أو القراء المحتملين بالترجمة الحاصلة، أو التحذير منها، وهو ما نحتاجه حقيقة في واقع الترجمة العربي.
مقترحات للنهوض بالترجمة العربية
وجوابا على المقترحات التي يراها مناسبة لخلاص الترجمة العربية من أزمتها، وخروجها من عنق الزجاجة، يرى الحوامدة أن ما ينتج عن «حركة الترجمة العربية» اليوم يشكل تغلغلا ثقافيا في اتجاه واحد؛ لأن ثقافتنا، في رأيه، ثقافة مستهلكة؛ تفسح المجال للغات الأقوى منها كي تؤثر فيها علميا واقتصاديا. كما أن الترجمة لدينا في رأيه أيضا مجرد كتابات معزولة لا يؤطرها أي إجراء رسمي، وهو ما يمكن إسقاطه على لغتنا، التي تعاني من الجمود والتحجر، وتحتاج إلى التحديث والتجديد. وفي رأيه كذلك أن ما يمكن أن يساعد على النهوض بالترجمة هو تدريب المترجم العربي على ممارسات طويلة الأجل وفق برامج وتدابير حكومية تعنى بها مجالس عليا، وتتمثل بعامليْ إسناد هما، التقني والشخصي. أما العامل التقني فيرتبط بما استحدثه أهل الخبرة من أدوات الترجمة المسندة حاسوبيا، وهي عديدةٌ وذات جدوى كبيرة في تعزيز الإنتاجية، بينما يتمثل الجانب الشخصي في تمثل المهارات الذاتية في حل المشكلات، وترتيب الأمور في أي مسألة، ثم التنظيم الذاتي، فضلا عن مهارات إدارة المشاريع.
وفي رأيه أيضا أن الأدوات والمعدات أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وهي تشكل اليوم أحد مكونات العمل في مجال الترجمة، فضلا عن أهمية تعزيز المهارات التقنية والشخصية للمترجم، بما يلبي حاجات السوق، ويرتقي بسوية المنتج، وكفاءة العملية على حد سواء. وفي ظل ما يشهده العالم من تطور تقني يزيد من العبء الوظيفي للمترجمين في ضرورة التعلم المستمر ومواكبة كل جديد. وهنا لا بد من ربط عملية الترجمة (أو التعريب) وإدراجها في الفعاليات العلمية والثقافية، واعتبار الأعمال المترجمة جهودا علمية مهمة شأنها شأن البحوث، وتشجيع المدارس والمعاهد والكليات والجامعات والمراكز التي تدرس فيها علوم الترجمة. أما إنشاء مراكز للترجمة إلى العربية، فهو، في رأيه، أمرٌ مهم لنشر ما يتم تعريبه، وتقديم الدعم للمترجمين ماديأ ومعنويا، ومن ذلك تخصيص دوائر للترجمة، ودعم الكتب المترجمة، وإنشاء بوابة للكتب المقترح ترجمتها.
كاتب سوري