ممثلون هواة يختارون الطرق العامة بديلاً عن خشبة المسرح

ممثلون هواة يختارون الطرق العامة بديلاً عن خشبة المسرح
د. نضير الخزرجي
في مسيرة حياة المرء مفاصل ومحطات، في بعضها يحتاج إلى أن يحرك قدميه إليها تسوقه روح الإرادة والرغبة، وبعضها تأتي إليه عن رغبة وإرادة، وبعضها الآخر دون مقدمات تندفع عليه اندفاعا تفتح عنده براعم الارتياح أو تفتح عليه حنفية الإلتياع، فالمدرسة على سبيل المثال يأتي اليها مرغماً راجلاً أو راكباً، والجامعة قد تقتضي منه في كثير من الأحيان الهجرة والارتحال اليها إلى مدينة أخرى أو خارج البلاد، لأن العلم يؤتى ولا يأتي، والعالم يؤتى ولا يأتي، والمسرح يؤتى، والسينما يُذهب إليها، والنهر يؤتى والبحر يؤتى، والسوق يؤتى، والمستشفى يُنقل إليها فيخرج منها المرء معافياً أو تنقله الأقدام إلى مضجعه ومثواه، والمطر يأتي إليه بوابله وطلِّه، وتأتي إليه الريح بنسيمها المنعش أو عاصفها الموحش، وقد يأتي الطبيب إلى دار المريض، وقد يأتي المعلم الخصوصي إلى دار الطالب ومنزله.
فيما مضى من أيام الدراسة في المراحل الأولى، رغم أن المدرسة تضم مسرحاً صغيراً تعرض على خشبته مسرحية طلابية، لكن إدارة المدرسة في أيام التعليم الجاد كانت تأخذنا إلى مسرح المدينة لمشاهدة فرقة المسرح المحلي أو الوطني كجزء من الترفيه وتذوق الفن والأدب، وعلى مستوى التعليم كانت إدارة المدرسة تأخذنا إلى المكتبة المركزية رغم أن مدارسنا في عهده الحقيقي تملك مكتبة عامة صغيرة يرتادها الطلبة للتزود من علومها وفنونها وآدابها، فهذه نذهب اليها وتلك تأتي إلينا.
وإذا كان المسرح على سبيل المثال يؤتى والسينما تؤتى فإن التلفاز يقتحم البيت ويأتي بالمسرحية والفيلم السينمائي وغيرهما من البرامج التمثيلية والترفيهية والتعليمية والوثائقية والحوارية وغيرها، وإذا كان الممثلون في المسرحية تراهم عياناً وهم يتحركون على خشبة المسرح، فإنك تراهم عبر الشاشة الفضية بذراتهم المجازية.
في مدينة كربلاء المقدسة حيث مسقط رأسي فإن القاطن فيها أو الزائر إليها وبالتحديد يوم العاشر من المحرم من كل عام ذكرى استشهاد سبط الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم الإمام الحسين بن علي عليهما السلام يرى ممثلين غير محترفين وهم يؤدون أدوارهم في تخليد واقعة الطف في شوارع المدينة المقدسة ليس عياناً فحسب بل قد يمرون من بين يديه ويلمسهم وقد يتحدث إليهم وقد يعتدي بالضرب أو بالحجارة على الممثلين الذين يؤدون دور قادة الجيش الأموي، فالناظر للمعركة التي تمثل ميدانياً في شوارع المدينة لا يمكنه أمام فظاعة الحدث إلا أن يتفاعل باكياً أو غاضباً قد لا يميز بين شخصية القائد الأموي الشرير الشمر بن ذي الجوشن الضبابي الحقيقية والتمثيلية فيرميه بالحجارة كأنما يرمي الشمر الحقيقي فيتلقى الشمر التمثيلي الحجارة وهو صابر ليس بيده من حيلة وهو يعلم قبل أن يتقمص دور الشمر الحقيقي أنه قد يتلقى الحجارة والسباب والشتائم من الناس، وكم من ممثل لهذا الدور في هذه المدينة المقدسة أو غيرها سالت منه الدماء صابراً محتسباً.
وهذا التمثيل العياني أو المسرح الميداني يسمى في عالم فن التمثيل “التشابيه”، وهو مسرح يأتي إليك وتتحرك شخوصه بين يدي المتفرجين.
وإذا كنت قد ذهبت بقدمي إلى مسرح الإدارة المحلية مرات عدة، فإن المسرح الميداني (التشابيه) جاءني مرات كثيرة، وإذا كانت صالة المسرح تستقبل المئات في أحسن الحالات، فإن شوارع المسرح الميداني يستقبل الآلاف المؤلفة لأن صفوف المقاتلين من جيش الحسين عليه السلام والجيش الأموي يتحركون في شوارع المدينة جيئة وذهاباً فيشاهدهم المعزون الذين ازدحموا لزيارة سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.
هذا المسرح الميداني الذي عشقته صغيراً وكنت أهابه كثيراً وتفاعلت معه باكياً أو غاضباً، لاطماً أو ضارباً، تداعت ذكرياته وأنا أتابع بالقراءة الموضوعية للجزء الأول من كتاب (المسرحية الحسينية .. المدخل) لمؤلفه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر حديثا (2025م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 469 صفحة من القطع الوزيري.
تقسيمات الفن المسرحي
المسرح شأنه شأن الكثير من الفنون التي ألفناها وألفها قبلها الأجداد، اختلفت الآراء في نشأته ونسبته لهذه الحضارة المدنية أو تلك، ولكنه بالتأكيد كما يفيدنا الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني في مقدمة الناشر أنه: (قد دخل المسرح في حياة الفرد، لأنه وسيلة من وسائل التثقيف والتعبير عن الأحزان والأفراح وحتى التسلية، لأنه يتوجه إلى الجمهور على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم وأهوائهم باللهجة التي يفهمونها، لإيصال رسالة ما أو هدف ما).
والمدخل إلى المسرحية الحسينية هو في واقعه الجزء الأول من باب المسرح من أبواب دائرة المعارف الحسينية الستين، ويمثل هذا الجزء كما يفيدنا الدهيني: (الجزء الثامن والعشرون بعد المائة من أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي طبعت حتى يومنا هذا بتوفيق من الله عزَّ وجل الذي نرجوه أن يوفقنا إلى إصدار بقية أجزاء هذه الموسوعة المباركة التي تجاوزت أجزاؤها الألف جزء)، وهذا الجزء هو القسم الأول من أقسام الفن الثلاثة: “المسرح والتمثيل والتشابيه”، كما ارتأى مؤلفه المحقق الكرباسي تقسيمه، متحدثاً في فصل مستقل بعنوان: (الرواية والقصة والحكاية) عن الفوارق في فن الكتابة والتأليف الأدبي عن مفهوم الرواية والقصة والحكاية والقاسم المشترك بينها، متعرضاً للبدايات الأولى لهذه الفنون التي تشكل المادة الخام لأية مسرحية أو تمثيلية أو فيلم أو مسلسل تمثيلي أو مسرحية ميدانية تعرض في قاعة مفتوحة كبيرة أو في الشوارع العامة كما هي المسرحية الحسينية، وبتعبير الكرباسي: (هذه القصص أو الحكايات أو الروايات هي التي انتقلت إلى خشبة المسرح ولكن بشيء من التهذيب وأصبحت أشبه بالتمثيل).
وتحت عنوان (المسرح والتلفاز والتواصل)، يعرض المؤلف إشكالاً عما إذا كان المسرح انتهى دوره بعد ظهور التلفاز، وما إذا كان دور الإثنين انتهى بعد أن ظهر الهاتف النقال ووسائل الإعلام الحديثة ووسائل الاتصال المجتمعي التي أتت بالمسرحية والتمثيلية والفيلم والرواية والقصة والحكاية وأمثالها إلى المشاهد أينما كان عبر الشاشة الصغيرة التي يحملها في ترحاله وتعرُّسِه، وخلاصة الأمر أنَّ: (المسرح موجود كما هو إلا أن الحضور خف أو انتهى، فالتلفاز أصبح صورة عن المسرح بمعنى أن المسرح بقي قائماً إلا أنه بدون حضور وانتقل الحضور إلى الجلوس والتسمُّر أمام شاشات التلفاز).
في خشبة المسرح وعنه
جرت عادة الباحثين والجامعيين على تأصيل العلم لغة واصطلاحاً، وهذا ما فعله المؤلف في المدخل إلى المسرحية الحسينية عندما أصَّل لمفردة المسرح والمسرحية، فالمسرح من حيث اللغة اسم مكان من السرح والجري، وفي الاصطلاح هو مكان عرض المسرحية التي هي في الأصل رواية نثرية أو شعرية أو نثرية وشعرية معاً، وأما أقسامه فهي: المأساة (التراجيديا)، والملهاة (الكوميديا)، والهزلية، ويتوزع المسرح على: (مذاهب كثيرة أشهرها خمسة: الكلاسيكي والرومانسي والواقعي والطبيعي والرمزي).
ومن هذه العناوين الفرعية يدخل المحقق الكرباسي إلى مناقشة (تاريخ المسرح)، ولكن بالتأكيد: (لم تكن فكرة المسرح أمراً حديثاً بل يعود تاريخه إلى ما قبل الميلاد بقرون، فهناك من يقول بأن سكان أهل الرافدين ومنهم السومريون هم أول من عرف المسرحية قبل ثلاثة آلاف سنة من الميلاد، وقيل إنَّ أول من عرف المسرحية هم المصريون القدامى وذلك عام 3000 قبل الميلاد، وقيل إن الإغريق اليونانيين هم أول من اخترع هذا الفن وذلك عام 600 قبل الميلاد)، وحيث لا يمكن التثبت من سنة التأسيس وتأصيله ولكن من المؤكد كما يفيدنا الكرباسي أن المسرح القائم عناصره على الحكاية والشخصية والصراع والحبكة والعقدة: (نجده حاضراً في كل زمان ومكان حيث إنه وسيلة من وسائل التعبير، ويمكن القول بأنه فرض نفسه في كل الحضارات تقريباً).
من هذه الرؤية يدخل المؤلف تحت عنوان (دور المسرح في الحواضر الغابرة والحاضرة) في التفاصيل، معدداً أهم المسرحيات التاريخية للمجتمعات الغابرة والحاضرة وأهم المؤلفين والكتبة من أدباء وشعراء، مسلطاً الضوء على المسرح العربي المعهود الذي انطلقت بداياتها في القرن التاسع عشر الميلادي في بلاد الشام ومصر.
ولأن المعتقد له مدخلية كبيرة في حياة الإنسان كاتباً أو متلقيا فإن المؤلف أفرد عنوان (المسرح الديني) متحدثاً عن المسرح والمسرحية لدى الأديان السماوية والأرضية، بخاصة عن (المسرح عند العرب والمسلمين) كما في عنوان مستقل متطرقاً إلى (التزمُّت في المسرح)، ليؤكد تحت عنوان (دور المسرح في الحياة) تأثيره الفعال: (لتوجيه الرأي العام وصقل النفوس وتجسيد وقائع الماضي ومقارنته مع الواقع المعاش) داعياً إلى: (أن يكون بمستوى المسؤولية ليكون أداؤه حسناً واستخدامه مفيداً).
ومن باب العموميات يدخل المحقق الكرباسي باحة الخصوصيات متناولاً بعنوان مستقل (المسرحية الحسينية) تفاصيل المسرح الذي تعود جذوره إلى واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين سنة 61 للهجرة في كربلاء المقدسة على يد السلطة الأموية، مستعرضاً آراء عدد من المختصين بهذا الفن من بلدان مختلفة، ونشأة هذا الفن من المسرح الحسيني في العراق وإيران والهند ومصر وغيرها وتطوره، ومقومات الفن المسرحي بعامة والحسيني بخاصة، كما استعرض المؤلف أقوال عدد من أصحاب الشأن بالفن المسرحي وهو يتناول (مفردات العرض المسرحي) من عرض وممثل ومخرج وجمهور ومكان العرض وطريقة التقديم ومعالم من القرآن الكريم تستنبط النظرية الجمالية للفن وأخواته.
مسرحية ومؤلف ومدينة
يستمد فن المسرح وبخاصة الحسيني منه أدواته من مأساة كربلاء التي كتب فصولها المؤرخون وأرخها أئمة أهل البيت عليهم السلام، والنصوص التاريخية هي المادة الأساس التي اعتمدها كتّاب المسرح الحسيني، ويطلعنا المؤلف تحت عنوان (مسرحيات أُلِّفت في المأساة الحسينية) عن أشهر من كتب في المسرح الحسيني من الأدباء والشعراء العرب والمسلمين.
ومن هؤلاء: محمد رضا شرف الدين (العراق)، عبد الرحمن الشرقاوي (مصر)، عدنان مردم بك (سوريا)، عبد الرزاق عبد الواحد (العراق)، جين تشارلز غابريل فيرولود (Jean Charles Gabriel Virolleaud) (فرنسا: ترجمة)، محمد عفيفي مطر (مصر)، فتحي سعيد (مصر)، قاسم محمد (العراق)، عبد الكريم برشيد (المغرب)، عز الدين المدني (تونس)، وليد فاضل (سوريا)، محمد علي الخفاجي (العراق)، محمد عزيزة (إيران)، عماد العبيدي (العراق)، منير راضي العبودي (العراق)، عدي المختار (العراق)، عماد قاسم الصافي (العراق)، علي حسين (العراق)، رضا كاظم الخفاجي (العراق).
ويأخذ بنا المؤلف للحديث عن (أول مسرح حسيني حديث في إيران)، موضحاً تحت عنوان (مراسم التعزية في إيران) تاريخ المسرح في إيران الكبرى وعلى الخصوص المسرح الحسيني الذي كان يعقده الملوك ويستضيفون فيه سفراء الدول، ويفصل القول في التعزية الحسينية بخاصة (التعزية في صورتها المسرحية) السائدة في الهند الكبرى وفي إيران والتكايا والزوايا التي كانت تعقد لهذا الغرض وبخاصة في طهران والتي هي بمثابة مسارح، والتي تعود إلى قرون متمادية كما يشرح لنا (تاريخ ظهور التعزية في إيران) و(التعزية في الهند) و(المسرحية الحسينية في مصر) معرجاً على فن (التشابيه) الذي هو بمقام مسرح مفتوح الفضاء في ميدان واسع أو طريق عام.
ويسلط المؤلف تحت عنوان (التمثيل وتاريخه) الضوء على عمومية التمثيل وأهميته في حياة المجتمعات، لينتقل بنا تحت عنوان (ظاهرة التمثيل) إلى أول حالة تمثيل عن واقعة الطف بكربلاء في القرن الثاني الهجري عندما دخل الشاعر الكميت بن زيد الأسدي المتوفى سنة 126هــ على الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المتوفى سنة 148هــ يوم عاشوراء لينشده شعراً في رثاء جدِّه الإمام الحسين عليه السلام فبعث النساء بطفل مقمَّط إلى مجلس الإمام فنظر الإمام إلى الطفل واشتد بكاؤه.
ويقف المؤلف في العراق عند محطات التمثيل الحسيني والمسرحي في مدينة الحيرة متطرقاً إلى أجواء المسرح الحسيني فيها يوم عاشوراء، والمسرح الحسيني يوم الأربعين من شهادة الحسين عليه السلام في مدينة النجف الأشرف.
ولأن المؤلف هو من الفقهاء المتنورين، فقد أفرد فصلاً للحديث عن (شرعية التمثيل) موليا (المسرح في الشريعة) اهتمامه مع إيراد (أحكام المسرح) وبيان موضوعة (المسرح بين الحقيقة والواقع) وقدسية المعصوم والمساحة التي يمكن أن يتحرك فيها كاتب المسرحية الدينية بعامة والحسينية بخاصة.
وبعد أن ينهي المحقق مدخله في المسرحية الحسينية بالخاتمة، يقدم لنا رؤية جزائرية عن المسرحية الحسينية بقلم الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين تحت عنوان (نظرة جزائرية في المسرحية الحسينية) ينتهي بشبين القول: (لم يترك العلامة الكرباسي فنا من فنون الحياة إلا وأدرج له في الموسوعة الحسينية موضعاً بحث فيه ما له أثر وربط واتصال بذات الإمام الحسين السبط عليه السلام ونهضته المباركة، ومن تلك الفنون المسرح والمسرحية)، مشفِّعاً دراسته بقصيدة تقريظية بائية بعنوان “المسرح العجيب”.
وألحق المؤلف في نهاية الكتاب بعد مجموعة فهارس قيمة مقدمة موضوعية تقريظية بقلم الشاعر والكاتب المسرحي الكربلائي المولد الأديب رضا كاظم الخفاجي وهي بعنوان (مدخل الى المسرح لابُدَّ منه)، مؤكداً في طيات بحثه الذي انهاه بقصيدة تقريظية نونية: (إن مسرحنا الحسيني الرسالي المعاصر لابد أن تعتمد نصوصه على البناء الدرامي المحكم وصولاً إلى الذروة، وإن مواضيع المسرح الحسيني المعاصر لا تنتهي أبداً فهي تنهض فيه مشكلات الحياة المعاصرة، وإن معالجتها وفق النهج الحسيني الإصلاحي هو الضمانة الأكيدة لنشر مبادئ العدل الإلهي).
في الواقع بإمكان المسرح الجاد أن يكون واحداً من مصاديق قول الإمام الحسين عليه السلام في بيان غرض نهضته المبارك: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي صلى الله عليه وآله وسلَّم وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام.
كاتب عراقي مقيم في لندن
الرأي الآخر للدراسات- لندن