«السينما وحضارة مصر القديمة»… في صحة الدعاية الركيكة

«السينما وحضارة مصر القديمة»… في صحة الدعاية الركيكة
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ للحضارة المصرية القديمة وجود راسخ في لاوعي المصريين، ذلك في شكل غير مباشر يتمثل كموروث شعبي يبدو في بعض من السلوك، أو الأمثلة الشعبية، والعديد من المفردات التي لا يزال يستخدمها الإنسان المصري، وهو ما يُدهش، رغم الانقطاع بين حياة وديانة المصري القديم، والمصري اليوم، إلا أن السمة الأقوى والأشد حضوراً هي الاحتفاء بالموت وطقوسه، والالتفاف حول أولياء الله الصالحين، وكذا القديسين والقديسات، كشكل من أشكال تحوير عبادة الآلهة القديمة المختلفة والمتعددة، التي تتنافى بالطبع مع المسيحية والإسلام. لكن المصري عبر رحلته الطويلة مع الدين استطاع أن يطوّع ويختلق نسخة دينية توحيدية تتآلف وروحه وطبيعة علاقته بالسماء.
ولكن.. بما أن السينما فن جماهيري، ويمكن من خلاله مخاطبة القطاع العريض من الناس، خاصة في مجتمع تنتهكه الأميّة، رغم حضارته الراسخة، يدور التساؤل حول مدى قدرة السينما والأعمال السينمائية على مخاطبة الشعب المصري، وهل وصلت في وعيها إلى ممارسات الإنسان المصري العادي، الذي يتنفس هذه الحضارة، ولو حتى دون وعي منه؟ هذا التساؤل يمكن إثارته من خلال عنوان كتاب «السينما وحضارة مصر القديمة»، الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، ضمن سلسلة (آفاق السينما)، عدد 110، لكل من سامي حلمي وحسين عبد البصير.
التوثيق والدعاية
يستعرض الكتاب في البداية في بيبلوغرافيا توثيقية الأعمال السينمائية ـ الوثائقية بالأساس ـ التي تناولت حضارة مصر القديمة، هذه الأعمال التي بدأت عام 1923 بفيلم وثائقي روائي بعنوان «في بلاد توت عنخ آمون»، كتوثيق لاكتشاف مقبرة الملك الشاب، وهو من إخراج فيكتور روسيتو، وتصوير محمد بيومي، الذي قام بتصوير وإخراج فيلم وثائقي قبل ذلك عن عودة سعد زغلول من المنفي عام 1919، ما يوضح فكرة المد القومي المصري، والاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، التي تؤكد قيمة الأصول المصرية وأحقية مصر في الاستقلال. ويستعرض الكتاب العديد من الأفلام، بداية من فيلم «رحلة جلالة الملك إلى الوجه القبلي» 1939، إخراج وتصوير حسن مراد، عن مقابر الملوك والجبانة في الأقصر، وحتى فيلم «اكتشاف أثر هام» 1992، إخراج مختار أحمد حسن، عن اكتشاف مقبرة عمال بناة الهرم. بالطبع ليست هذه كل الأفلام التي تم إنتاجها، كذلك تنوعت جهات الإنتاج، كالتلفزيون المصري، هيئة الاستعلامات، هيئة الآثار، وزارة السياحة، وبعض الشركات الخاصة، التي كان يقوم أصحابها بتصوير، أو إخراج هذه الأفلام، منهم بركات، أحمد خورشيد، رمسيس مرزوق، التلمساني، وقبلهم محمد بيومي.
إلا أن الملاحَظ على أغلب هذه الأعمال أنها كانت من قبيل الدعاية والترويج للآثار المصرية، أو توثيق لحدث أو اكتشاف أثري ما، لخدمة الدولة. ومن قراءة سريعة لعناوين الأفلام وسنة إنتاجها، نجد مثالاً.. فيلم «بعث التاريخ» 1953 عن رحلة قتال رمسيس الثاني، إخراج صلاح التهامي، رمسيس المقاتل هذا سيتحول إلى «رمسيس يريد السلام» عام 1976 إخراج فريدة عرمان، والأمثلة كثيرة.
الروّاد
ينتهج الكتاب الشكل البيبلوغرافي والتوثيقي السريع، ويذكر جيل الرواد بأسلوب دعائي، بداية من عناوين تقارب عناوين متابعات الصحف الاستهلاكية، مثل سعد نديم (الرائد)، الإخوة التلمساني (المبدعون)، شادي عبد السلام (المتفرد)، سمير عوف (المتصوف)، أحمد فؤاد درويش (الفرعون)، هاني لاشين (المتوهج دوماً). من الممكن إضافة شخصية (الواقفة بقبضتها) من فيلم «يرقص مع الذئاب».
السينما المستقلة
وفي مجال السينما المستقلة، يستعرض الكتاب تجارب مثل، «جار تحقيق الحلم» 2021 لأحمد عبد العليم قاسم، عن المتحف المصري الكبير، وهو فيلم دعائي بالدرجة الأولى، مع ملاحظة أنه بالبحث عن صورة للفيلم تم إيجاد صفحة على الفيسبوك تحمل اسمه بالإنكليزية Dream is Loading وترجمته (جار تحميل الحلم)، ويبدو أن الكاتبين لم يستوعبا الكلمة، فأحلوا (تحقيق) بدلاً من (تحميل)، كذلك فهو من إنتاج قناة النيل الدولية، وهي قناة تابعة للدولة، فأي استقلال يتحدث عنه الأخوان حلمي وعبد البصير؟!
أما فيلم «روح أخناتون» 2022 لداليا العبد، فتم عرضه في دار الأوبرا المصرية على المسرح الكبير ـ حسب الخبر المنشور في جريدة «المصري اليوم» في 12/6/2022 ـ بمناسبة مئوية اكتشاف تمثال توت عنخ آمون، بحضور عدد من نجوم الفن، منهم الفنانة لبنى عبد العزير، التي يبدو أنها الراعي الرسمي للمساخيط ـ التماثيل الفرعونية التي يتم التنقيب عنها واكتشافها ـ أما الكتاب فيذكر عن المخرجة ما يلي.. «تقدم صورة واقعية من تل العمارنة، وتعيد للحياة مدينة أخناتون. وتختلف عن أي موسيقى تصويرية أخرى، بل إنها قدمتها في شكل درامي يناسب موضوع الفيلم. إنه فيلم رائع لمخرجة فيلم مستقل». أين الإعجاز العلمي في أن الموسيقى تناسب موضوع الفيلم؟ وماذا يعني .. إنه فيلم رائع لمخرجة فيلم مستقل! أعتقد أن المكتوب ما هو إلا نقل عن البطاقة التعريفية الساذجة دائماً التي تصاحب عروض الأفلام المكتوبة بالإنكليزية، والمرفقة بترجمة عربية ركيكة كالعادة، أو فكرة الفيلم الغامضة بالضرورة، حتى تستحق الحصول على منحة أو العرض في مهرجانات بير السلم ولو كانت أوروبية، وأشهرهما كلمتي (شغف) و(اشتباك)، ولله في خلقه شؤون.
الطامة الكبرى
ويتطرق الكتاب إلى الأفلام الروائية التجارية التي استمدت موضوعها من الحضارة المصرية القديمة ـ التي لا تمت إليها بصلة ـ ويذكر منها .. «عروس النيل» 1963، «غرام في الكرنك» 1967، «ورقة شفرة» 2008، «الكنز» 2017، 2019. وملحوظة مهمة يضيفها المؤلفان توضح أن الأفلام المصرية «تعاملت مع حضارة مصر القديمة بشكل غير مباشر، وذلك بتصوير أفلام في أماكن أثرية كموقع، وليس كحدث درامي، ومثال ذلك تعامل المخرج القدير يوسف شاهين، في تصوير أحداث فيلم «صراع في الوادي» 1954، ونجد مشاهد المطاردة بين أبطال الفيلم داخل معابد الكرنك في الأقصر، من خلال مشاهد جمالية رائعة، وتصوير بالغ الروعة من خلال زوايا تصوير متنوعة متتالية للكرنك من الأمام والخلف، وأعلى وأسفل».. أما |الحب فوق هضبة الهرم» فـ «هناك مشاهد عديدة تم تصويرها عند الأهرام.. مشاهد جمالية للأهرام صباحية، ومشاهد ليلية غاية في الروعة أظهرت الهرم في صورة أروع ما يكون».. حتى الكتابة أصبحت من قبيل كروت البوستال.
يا للهول
«فرعوني بقى».. وفي ختام الكتاب يوضح المؤلفان ـ من أهم أسباب نشر الكتاب على نفقة الدولة ـ أننا نعيش فترة استعادة هوية مصر، مممم إزاي؟ عن طريق موكب المومياوات الملكية، والمتحف المصري الكبير. ونختتم بفقرة نتجاوز بها الاندهاش حد الفزع.. «ها هي مصر الحالية تعيد كتابة التاريخ وتبهر العالم كله وتعيد لمصر هويتها المصرية القديمة، التي غابت منذ فترة بعيدة تحت دعاوى قوى الظلام والإرهاب والفكر الرجعي، التي حاولت مراراً وتكراراً نزع الهوية المصرية القديمة عن جسد الحضارة المصرية العظيمة، لكنها فشلت بفضل الله سبحانه وتعالى ـ إحنا مؤمنين قوي مش أي كلام ـ وبفضل قيادة مصر المخلصة وحكومتها الواعية وشعبها المصري الطيب الأصيل».
وفي الأخير.. هل وجدنا إجابة عن التساؤل المطروح في البداية؟ بالطبع لا، لأن النهاية بدورها ستثير سؤالاً وجودياً.. «هي الناس دي عايشة فين؟».
كاتب مصري