ثقافة وفنون

الحمرا بعد زياد: نهاية فصل في تاريخ الشارع لبنان | مجتمع

الحمرا بعد زياد: نهاية فصل في تاريخ الشارع

ظلَّ شارع الحمرا وجهة أساسية في بيروت رغم تحوّلاته و«اغترابه» عن زمنه الأوّل. مؤخّراً، ودَّع الشارع الفنان زياد الرحباني في لحظة فارقة واستثنائية، بدت بمثابة إعلان نهاية مرحلة كاملة من عمر الشارع. لكنها، في الجوهر، كانت تحيّة من ناس الحمرا إلى «زياد»، أحد أكثر قاطنيه شهرة. في ما يلي مشاهد مختلفة في سياق زمني واحد، تتقاطع فيه الأحداث وتتداخل بين السياسة والاقتصاد والثقافة، وتصبُّ كلّها في الشارع الحاضر دائماً لولادات جديدة

المرور الأخير لزياد الرحباني

كان إبراهيم شحرور يراقب الحشد عن قُرب في شارع عمر عبد العزيز قبل أن يمشي عكس السير مع المُشيّعين، صعوداً باتّجاه شارع الحمرا الرئيسي. في اليوم التالي، سيطرح شاعر اللغة المَحكيّة، بالشراكة مع صديقَيْه عادل جبر وأنطوان قسطنطين، مبادرة لإضافة اسم زياد الرحباني إلى اسم الشارع العريق. مبادرة أثارت انقساماً بين مؤيّد ومعارض، استغلّته السلطة لغايات سياسية، فأطلقت الاسم على شارع آخر «خارج» العاصمة.

محاولة البحث في أرشيف التجمُّعات الشعبية المختلفة التي شهدها الشارع عبر تاريخه لا تقود إلى ما يشبه جنازة زياد الرحباني قبل ثلاثة أسابيع. لم يشهد الشارع من قبل مرور جنازة بالمطلق. فشارع الحمرا ليس خطّ جنازات أصلاً، لاعتبارات مرتبطة بوجود السكان الفعليين في الأحياء المجاورة له. لم يسبق أن توقّف السير في شريان مرور رئيسي في بيروت من أجل جنازة فنان. ولم تحظَ جنازة قط بالتصفيق لساعتين متواصلتين كجنازة زياد.

«ثمّة رابط حميم بين الجمهور وموسيقي ومسرحي بعظمة زياد. شعر الناس بخسارة شخصية وجماعية في الوقت ذاته، ما أعطى التشييع فرادة» على ما تقول أريج أبو حرب. برأيها، أداء الناس في التشييع كان موقفاً سياسياً أيضاً. «تأكيد على تماهيهم معه. زياد كان صوتهم، الواضح دوماً، لجهة مقاومة الاستعمار ورفض صيغة لبنان والفساد». جمعتهم جنازة زياد رغم تبايناتهم السياسية، وهذا «استثناء» أيضاً.

  • (مروان بوحيدر)
    (مروان بو حيدر)

«زياد نجح في ملامسة وعينا وتجاربنا»، على ما يقول عطا الله السليم، لافتاً إلى أنّ الرحباني «أسَّس لما يسمَّى الفلسفة الشعبية التي تحاكي نبض الشارع ولغته». الفكرة ذاتها يؤكّدها ناصر عجمي. إذ إنّ «زياد اختصر كل ما كنا نريد قوله، نحن العلمانيين والوطنيين والديمقراطيين، وحتى العاشقين عبر أعماله الإذاعية والمسرحية. استطاع زياد أن يقولب الأفكار التي كان يأخذها من الشارع على طريقته».

كانت جنازة زياد الرحباني في الحمرا أفضل تعبير عن عمق العلاقة وعمق الشعور بالخسارة. تقول الجنازة الشعبية: بقدر ما أعطى زياد لهذه المنطقة أعطته. مسيرة التشييع لم تقتصر على من مشوا خلف النعش فقط. كان هناك أهل الحمرا أيضاً، الذين واكبوها من أمام محالهم التجارية وأطقم المستشفيات القريبة ومن على الشرفات. «أهمية زياد أنه كان مبدعاً في فنّه وصادقاً في قوله. لم يطلب شيئاً لنفسه، حتى عندما كان يقول موقفاً مختلفاً في السياسة. كان صادقاً… والرائد يصدّقه أهله»، يقول سليمان بختي. جنازة زياد الرحباني الاستثنائية في الحمرا يوجزها طلال شتوي بأنها «كانت مسيرة حُب. بَشَر يقولون لزياد منحبّك بلا ولا شي».

نهايات… وبدايات مُعلَّقة

كان زياد أحد مرايا شارع الحمرا وواحداً من أبرز الشخصيات المؤثّرة التي سكنت في «رأس بيروت» ونسجت علاقة مع المكان وناسه. لذلك لم يكن مستغرباً الربط الظاهري بين مشهديّة وداعه في الحمرا وبين أحوال الشارع الذي شهد متغيرات عديدة على مراحل زمنية متتالية. «الحمرا كان إلها سنوات عم تنازع، وزياد برحيله أعاد لها الحياة ولَو قليلاً. مشهد وداع زياد المهيب كأنه كانت الحمرا عم تاخد نفس لتودعه»، تقول نيكول كماتو. لكنّ طلال شتوي، مؤلف كتاب «زمن زياد»، لا يرى في المشهد ما من شأنه أن يعيد الروح الى الشارع.

بالنسبة إليه «شارع الحمرا صار ذكرى شارع، وزياد كان حزيناً وهو يرى هذه المتغيرات المتسارعة لدرجة بدت له أنّ المدينة تلتهم تاريخها بضراوة». فيما ترى أريج أبو حرب أنّ الجنازة كانت في شكل من الأشكال إعلاناً عن نهاية مرحلة، لكنّ المسألة أبعد من شارع الحمرا نفسه.

وفي السياق ذاته، يرى بختي أنّ رحيل الرحباني يشكّل امتداداً لغياب معظم الشخصيات المهمة التي طبعت الحمرا بطابعها، وأنّ صفحة من حياة الشارع قد طُوِيت. ومع أنّ منطقة رأس بيروت عموماً لديها «قدرة على التولّد مجدّداً»، يرى بختي أنّ «ثمّة صعوبة كبيرة في استعادة روح المكان في الوقت الراهن، ذلك أنّ علامة الاستفهام الكبيرة تتعلّق بدور البلد نفسه وإلى أي موقع يتّجه مع كل هذه المتغيرات».

ليس مفاجئاً الهبوط الذي شهده الشارع في السنوات الـ15 الأخيرة بعد هجرة أو موت كثير من نخبه وروّاده

من جانبه، يربط عطا الله السليم ربطاً بين انكفاءة زياد شبه الكاملة عن المشهد العام منذ نهايات العام 2018 وبدايات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلد. ويعتبر الصحافي والباحث السياسي أنّ شارع الحمرا بالذات أرسل مبكّراً أولى إشارات الانهيار في صيف ذلك العام عندما بدأت المؤسسات التجارية تغادره تباعاً. برأي عطا الله، الحمرا اليوم «يعيش حالة من التخبّط بين الماضي والحاضر الذي يحتاج إلى وقت لتتّضح معالمه، ولا يمكن النظر إلى الشارع بشكل منفصل عن وضع البلد ككل».

وفي السياق ذاته، يرى ناصر عجمي أنّ منطقة الحمرا عموماً فقدت منذ سنوات صورة «المختبر» الثقافي والسياسي والاقتصادي للبلد. لذا، «ليس مفاجئاً هذا الهبوط الذي شهده الشارع لا سيّما في السنوات الـ15 الأخيرة، بعد هجرة أو موت كثير من نخبه وروّاده، إضافة إلى تداعيات النزوح السوري الذي ساهم في تغيير طبيعة المحال التجارية والتركيبة السكانية». لكنّ عجمي يعوّل على نقطة القوة الأساسية المتمثّلة بتنوّع المنطقة السياسي والطائفي والاجتماعي ما يمكّنها من النهوض في ظروف مؤاتية «بعد مرحلة الكمون الحالية».

هذه المقوّمات، «وانطلاقاً من إرث الحمرا الغني بالتاريخ والإبداع»، هي ما يشجّع وارف قميحة، رئيس «لجنة أصدقاء شارع الحمرا»، على طرح مجموعة أفكار ومبادارات تهدف إلى إعادة الحيوية إلى الشارع وأرصفته، مثل تنظيم «سوق الحمرا الثقافي الشهري» ومعرض الحمرا للكتاب في الهواء الطلق وليالي الشعر والموسيقى وأيام التراث والذاكرة التي تروي حكاية الحمرا وروّادها، وعقد شراكات مع الجامعات والمراكز الثقافية بهدف ربط الشارع بجيل الشباب وتشجيع مشاركتهم في الحياة الثقافية.

أحاديث على رصيف شارع رقم 31

«نأتي إلى الحمرا لأنّه شارع العجقة، ويُسَلِّي». كان الزائر يعيد قراءة العبارة الواردة في تحقيق صحافي نشرته جريدة «السفير» منتصف السبعينيات. كانت القصاصة معلّقة على الجدار ضمن معرض «الحمرا مرآة البلد» الذي نُظّم قبل أسابيع في «ملتقى»، وهو فضاء ثقافي ومقهى افتُتِح قبل 4 سنوات في الطابق الأرضي المستحدث في بناية «السفير» في الحمرا. كان إقفال الصحيفة قبل 9 سنوات بمثابة إعلان صريح عن التحوّلات الحاصلة في مهنة الصحافة. على رصيف الحمرا، قرب مقهى «كافيه دو باري» سابقاً والذي استأجره مطعم كبابجي منذ سنتين (ولم يُفتَتَح بعد)، لا يزال نعيم صالح في مكانه منذ سنوات طويلة.

كيوسك «أبو أحمد» هو واحد من بين 3 نقاط متبقّية لبيع الصحف والمطبوعات صمدت في شارع الحمرا من أصل 9 سابقاً. يقول نعيم صالح إنّ «البيع شبه واقف» بسبب الظروف المعيشية التي انعكست على كل شيء. لكنّ =يوم تشييع زياد الرحباني كان استثنائياً لجهة الرقم القياسي الذي حقّقه مبيع عدد «الأخبار» الخاص، وهو رقم لم يسجّل منذ سنوات. يقول أبو أحمد إنّ زياد الرحباني «كان يشتري من عندي جرايد فرنسية ويستوحي منها أفكاراً وخصوصي الكاريكاتور».

على عادته يمرّ علي حرب أحد آخر مثقّفي الحمرا من أبناء جيله، ويأخذ على سبيل الإعارة مجلّتي «اوبزرفاتور» و«ولي بوا»، فيما غيّر بول شاوول مساره اليومي إلى الجهة الأخرى للرصيف باتجاه «إقامته» الدائمة في مقهى «دانكين دوناتس». تشتري سيدة ستّينية مجلة «سودوكو»، وأخرى تبتاع «الديار»، بينما يعطي أبو أحمد زبوناً جريدته بمجرّد أن يلمحه قادماً نحوه. أُتيح للرجل أن يواكب تحوّلات الشارع والرصيف ومهنة بيع الصحف والمطبوعات التي نسج عبرها صداقات مع مثقّفي شارع الحمرا ووجوهه.

  • (مروان بوحيدر)
    (مروان بو حيدر)

تباعاً كانت وجوه العابرين تتغير، وكان قرّاء المانشيت الصباحي يتناقصون، وكانت واجهات المحال التجارية على الرصيف نفسه تتبدّل. وحدها آرمة «سينما الحمرا» تكاد تكون شاهدة على الزمان والاسم، فيما المكان تحوّل منذ سنوات إلى مقهى تغيّر اسمه أكثر من مرة. مقهى يشكّل نموذجاً لعدد كبير من المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة التي انتشرت في الحمرا في السنوات الـ15 الأخيرة، برغم ظهور مشاريع جديدة كـ«برزخ» و«تحت الشجرة» ذات الطابع الثقافي إضافة إلى استمرارية «تاء مربوطة» كوجهة أساسية في مجاله.

في حديث الشارع، تحضر السياسة وهموم المعيشة وارتفاع الطلب على الشقق المفروشة واحتمالات تجدّد الحرب وعودة مشهد النازحين في الحمرا. «هذا البلد لن تقوم له قائمة». يقول مواطن قرب محل لبيع الحقائب في شارع الحمرا. الشارع الذي كثرت الشكاوى من مشاكله في السنوات الأخيرة لا سيّما النفايات ومجموعات المتسوّلين الذين «طفّشوا» جزءاً من روّاده وسط علامات استفهام ومعطيات تؤكّد «استغلالهم» في مهمات أخرى كالدعارة وغيرها.

«وين السوّاح اللي وعدونا فيهن؟»، تسأل صاحبة أحد محال العطورات في شارع الحمرا، بينما يؤكّد محمد الريس، عضو جمعية تجار شارع الحمرا على تراجع الحركة الاقتصادية بشكل ملحوظ في الأشهر التسعة الماضية التي تلت وقف الحرب الموسّعة على لبنان، مشيراً إلى إغلاق نحو 30 محلّاً ومؤسسة تجارية.

«هيهات أن يُضَام العاشقون»

لم يمضِ على قدوم عمّار، الشاب العراقي، إلى شارع الحمرا سوى دقائق معدودة. كان أوّل شيء فعله لحظة وصوله التقاط صورة له مع جدارية صباح الشهيرة. الجدارية التي رسمها الفنان الشاب يزن حلواني عام 2015 تحوّلت إلى «مَعْلَم» رئيسي وأحد أبرز التعبيرات عن الهوية البصرية للشارع. تقول إيمان عسّاف، رئيسة جمعية «أحلى فوضى» إنّ الجمعية نفّذت وشاركت في رسم قرابة 12 جدارية في شارع الحمرا الرئيسي وشوارع أخرى في رأس بيروت كـ«مقدسي» و«بلس»، بهدف تحويل المنطقة لتكون بمثابة «بابليك آرت غاليري»، لافتة إلى أنّ جداريات الحمرا تعكس التنوّع الموجود في المنطقة وتركّز على حضور المرأة في الحياة العامة. «هذا التنوّع هو الذي سمح للجمعية بأن تنطلق بمشاريعها من هناك وهو ما لا يتوفّر في أي شارع آخر في بيروت».

في ما مضى كان لكتابات الجدران حضور قوي تراجع أثره في زمن السوشيل ميديا. تبدو جدران الحمرا أشبه بـ«تايم لاين» كبير للمدينة. رسومات وملصقات وكتابات مختلفة بين العام والخاص. في «الرئيسي» و«مقدسي» و«جاندارك» و«مهاتما غاندي» وغيرها من الشوارع المتفرّعة، تطغى شعارات ورسومات «طوفان الأقصى». فيل الأشهر الماضية التي تلت الحرب الموسّعة في لبنان رفع يساريّون لبنانيون ملصق عبارة «مقاومة».

زياد كان حزيناً وهو يرى هذه المتغيرات المتسارعة لدرجة بدا له أنّ المدينة تلتهم تاريخها بضراوة

هنا وهناك، في غير شارع، «لا تصالح»، تقول العبارة الشهيرة للشاعر المعروف أمل دنقل. «غذاء طبابة سكن» على جدار آخر. «مقاطعة الشركات الداعمة للكيان» قرب الـ«بريستول» المقفل منذ سنوات. على جدار كنيسة القديس فرنسيس كُتبت جملة «هيهات أن يضام العاشقون». وفي غير مكان كتبت عبارة «الحرية لجورج عبد الله» الذي وضعت له أيضاً لوحة تعريفية قبل سنة ونصف السّنة على الرصيف قبالة مسرح المدينة.

وفي الـ«مكحول»، كتب أحدهم: «وصرنا ننتمي للفقدان.. كيف نلتئم؟». داخل مكتبة بيسان، في نواحي الحمرا، حيث علّق عيسى أحوش على الواجهة الخارجية صورة لزياد الرحباني إلى جانب صورة الشهيد باسل الأعرج، يقول الرجل: «المرحلة صعبة جداً، المهم ألّا ننهزم من داخلنا. نحن نتألّم لكن لم يقدروا بعد على ابتلاعنا، وهذا لم يحصل في الماضي. فقط تذكَّر خالد علوان في مقهى ويمبي». قرب اللوحة التي تحمل اسم خالد علوان، كان بضع عشرات من المواطنين يمرّون قبل أيام حاملين لافتة مكتوب عليها: «علّمنا التاريخ أن لا أمان إلا بزوال الاحتلال».


مع عبّودي أبو جودة

عند تخوم الحمرا، ليس بعيداً من المنزل الأخير الذي سكنه زياد من بين 4 منازل في رأس بيروت، كان عبّودي أبو جودة يعيد ترتيب ملصقاته وبينها ملصقات مسرحيات زياد الرحباني التي عُرِضت جميعها على مسارح الحمرا، في «أورلي» و«جاندارك» و«بيكادلي». في مكتبة «الفرات» التي تضمّ جناحاً خاصاً كبيراً لملصقات الأفلام والأعمال الفنية والسينمائية والملصقات السياسية، يحاول أبو جودة رؤية المشهد بشكل محايد: زياد الذي كان لدوره أثر كبير في المجتمع.

كان في الواقع مثله مثل أي إنسان جاء إلى منطقة رأس بيروت وتفاعل معها كما فعل كثيرون قبله وبعده. «زياد قطعة موسيقية من هذه المنطقة». لذلك يرفض أبو جودة فكرة إضافة اسمه زياد إلى اسم الشارع. «ليش مش شارع نزيه خاطر أو بول شاوول مثلاً؟»، يقول ممازحاً، لافتاً إلى أنّ التكريم الحقيقي يكون مثلاً بتأسيس جمعية لتعليم الموسيقى تحمل اسمه.

يسكن أبو جودة في الحمرا منذ عقود، وبينه وبين شوارعها وناسها حكايات كثيرة، وهي التي صقلت شخصيّته ووعيه. مِن على أبواب صالاتها السينمائية وجدرانها بدأت حكاية شغفه مبكراً بجمع الملصقات. يدرك الرجل أنّ الشارع شهد تحوّلات كثيرة، لكنّ «الخلطة يللي بحب شوفها وبتشبهني موجودة هون مش بأي مطرح تاني».

عندما يُسأَل عبودي أبو جودة كيف صنع شارع الحمرا «أسطورته» السابقة، يختصرها كالتالي: «ميزة الشارع في ما مضى كانت مقاهيه، ملتقى كل الأطياف، المثقّف والفدائي والسائح والطالب والصحافي والتاجر إلخ… في لحظة ما، في أثناء الحرب، كانت الشركات التجارية الكبيرة تفتّش على أمكنة لعرض بضاعتها فنقلت محالها من وسط البلد إلى الحمرا».

يضيف: «صالات السينما والمراكز الثقافية العديدة التي ننسى غالباً دورها بين الستينات والثمانينات، كالمركز البريطاني الثقافي والمركز الكندي والفرنسي والإسباني والألماني والعراقي وغيرها، كلها ساهمت بصناعة صورة الحمرا»، إضافة إلى الدور المركزي للجامعة الأميركية في تشكيل منطقة رأس بيروت حتى ما قبل ظهور شارع الحمرا كما نعرفه. في مدّة زمنية سابقة، يقول أبو جودة، «كل لبنان وليس بيروت فقط وُسِم بشارع الحمرا. وهذا يكاد يكون استثناء أيضاً».


«دولة رأس بيروت»

تُعيد جنازة زياد الرحباني في الحمرا إلى الأذهان مجموعة كبيرة من الأحداث والاعتصامات الشعبية التي طبعت ذاكرة الشارع ومنطقة راس بيروت عموماً، وهي ذاكرة وطنية واجتماعية ذات طابع نخبوي في الغالب. في العام 1976، وردّاً على القتل على الهوية في الحرب الأهلية اللبنانية، أصدر نادي خريجي الجامعة الأميركية بياناً يدعو لشطب المذهب عن الهوية، ما أحدث حينها تفاعلاً كبيراً في العاصمة والمناطق.

في آب 1982، شهد الشارع عبور مجموعات من المقاتلين الفلسطينيين المغادرين لبيروت وسط تصفيق ونثر الأَرُزّ من سكان المنطقة. وفي أثناء الحرب الأهلية أيضاً، سُجّل خروج تظاهرة شعبية للجسم الطبّي بثياب المهنة سلكت شارع الحمرا ردّاً على خطف منير شماعة ويوسف سلامة عام 1985. وشمّاعة كان طبيباً معروفاً أقام في رأس بيروت التي سمّاها «دولة رأس بيروت» في كتابه «إقلاع وهبوط»، وفيه يروي سيرته الشخصية وسيرة المنطقة.

في أرشيف «وقفات» شارع الحمرا يبرز الاعتصام الذي نفّذه روّاد مقهى «مودكا» الشهير عام 2003 رفضاً لإقفاله وتحوّله إلى متجر ألبسة، وهو «حدث» غير مألوف. كانت تلك المرحلة برأي كثيرين لحظة فارقة في تاريخ الشارع وبداية للتّحول الكبير الذي أصابه بعد إقفال عدد من المقاهي الأخرى ذات الطابع الثقافي مثل «كافيه دو باري» و«ويمبي» وغيرهما.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب