
بقلم حسين عبدالله جمعه
منذ سنوات شبابي الأولى كنت أظن أن الصدق هو المدماك الذي تُبنى عليه الحياة، وأن الصداقة ملاذ يحمينا من قسوة الأيام. كنت أردد ما تربّيت عليه: “صديقك من صدقك لا من صدّقك”، و”الصديق وقت الضيق”. غير أنني كلما تقدمت في العمر واصطدمت بوجوه الناس، وجدت أن هاتين الكلمتين – الصدق والصديق – قد تحوّلتا إلى عبءٍ أثقل روحي، وإلى لعنةٍ أحيانًا، ووهمٍ في أحايين أخرى. أتذكّر جيّدًا صديقي “بَنور بركة الله” التونسي، الذي التقيت به في دمشق منتصف الثمانينات. سألته يومًا عن رأيه في الصداقة، فأجابني بابتسامة عريضة يكسوها الأسى: “الصداقة؟ ليست إلا مصطلحًا اجتماعيًا نبرّر به مصالحنا. لا وجود حقيقي لها.” يومها صُدمت من كلماته، قاومتها بعناد، لكنني حملتها في قلبي كشوكة تجرحني كلما انكشفت لي حقائق البشر. أكثر ما يرهقني أن تكون صادقًا في مجتمعٍ يحترف الكذب. تدفع ثمن صدقك مضاعفًا: تُتهم بالمثالية، تُقصى، وربما تُسحق فقط لأنك رفضت أن تجامل أو تخدع. حتى الكذبة البيضاء لم أستطع أن أمارسها، فكيف لي أن أتماهى مع من جعلوا الكذب عبادةً جديدة يخفونها خلف عباءة الدين؟ أراهم يحجّون كل عام، يعودون بألقاب “الحاج” و”المؤمن”، لكنهم يزدادون رياءً ونفاقًا، وكأن الحج صار تذكرة عبور إلى عالم المنافقين. أما الصداقة… فما أكثر ما انكسرت أمامها. في زمنٍ كانت الغرفة الضيقة، والأغنية المشتركة، ولقمة الخبز اليابس كافية لتجمعنا، كان الأمل أقرب، والصدق أبسط. لكن المال دخل حياتنا، ففرّقنا. صار معيار القبول أن تكون صاحب عقار أو سيارة، أو تابعًا ذليلًا لرجل أعمال منافق. من لم يناسب هذه الصورة، فمصيره العزلة. وعندما تطلب الإنصاف من البقية، يدفنون رؤوسهم كالنعام، يخافون على مصالحهم، ويتركونك وحيدًا في مواجهة الطعنات. اليوم، وبعد أن كبرت الجراح، لم أعد بائسًا، لكنني سئمت. سئمت الكذب والنفاق، سئمت من أولئك الذين يبتسمون في وجهك وينادونك “أمير” أو “سيدنا”، بينما يبيعونك عند أول امتحان. لم أعد أؤمن بالصداقة كما رسمتها الكتب، بل كما وصفها “بَنور بركة الله”: فلسفة اجتماعية لإدارة المصالح والأنانية. ومع ذلك، وجدت عزائي في الصدق مع نفسي. وجدت سلامي حين قررت أن لا أنحني لالتقاط من سقط من عيني. وجدت نوري حين أمسكت بالقلم، وكتبت ما يثقل قلبي دون رياء. قد أكون انعزلت، لكنني أشكر الله على هذا الانزواء الذي كشف لي الحقائق. نعم… حين يصبح الصدق لعنة والصداقة وهمًا، لا يبقى لك إلا أن تتمسك بنفسك، وأن ترفع قلبك إلى الله، علّ في هذا الصدق وحده خلاصًا. حسين عبدالله جمعة