مقالات
فلسطين والمشهد العالمي المتغير: قراءة في التحوّلات الاستراتيجية والمسؤولية العربية بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة -الهدف السودانية –
بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة -الهدف السودانية -

فلسطين والمشهد العالمي المتغير: قراءة في التحوّلات الاستراتيجية والمسؤولية العربية
بقلم: أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة -الهدف السودانية –
تشهد فلسطين اليوم لحظة كاشفة لا للمنطقة وحدها بل للنظام الدولي برمّته. لم تعد القضية سؤالًا محليًا أو ملفًا تفاوضيًا معزولًا، بل معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا تقاس عليه صدقية الخطاب الغربي عن حقوق الإنسان، وتُختبر عنده قوة الجنوب العالمي الصاعد، وتتكشف عبره حدود السرديات الإعلامية الكبرى. هذا التحوّل يتغذّى من تراكمين متوازيين، الأول هو مقاومة فلسطينية تمتدّ من الميدان إلى الوعي العالمي، والثاني تصدعاتٌ في بنية (الليبرالية الأطلسية) تجعلها أقل قدرة على فرض رواية واحدة أو إملاء حلول منزوعة العدالة.
في أوروبا تبدو القارة منقسمة بين دولٍ تُبقي ولاءها السياسي والتاريخي (لإسرائيل) دون قيد أو شرط، وأخرى تغلّب اعتبارات القانون الدولي وحقوق الإنسان وتسمح لمجتمعاتها المدنية بأن تُسمِع صوتًا ناقدًا متزايدًا. هذا الانقسام ليس تفصيلًا، بل علامة على أزمة هوية عميقة. هل تظل أوروبا ملحقة بالمظلّة الأمريكية مهما كان الثمن الأخلاقي، أم تستعيد معيارها الحقوقي الذي بنَت عليه شرعيتها الحديثة؟ في المقابل، يلتقط الجنوب العالمي زمام المبادرة الأخلاقية، حكوماتٌ ومجتمعات في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا ترى في فلسطين العربية صورة مكثفة لتجاربها مع الاستعمار والتمييز، فتُحوِّل التضامن من لافتات إلى مواقف قانونية ودبلوماسية وإجراءات عملية. أما الولايات المتحدة، فتخوض امتحانًا داخليًا غير مسبوق، متمثل في مؤسسات سياسية تقليدية تواصل دعم الاحتلال، يقابلها جيلٌ صاعد من الشباب والأقليات والنقابات والجامعات يعيد تعريف (المصلحة الأمريكية) بوصفها التزامًا بقيم العدالة وليس بتحالفاتٍ عمياء. وبين هؤلاء وأولئك تقف المؤسسات الدولية نفسها وقد انكشف عجزها السياسي، لكن مع فتح مسارات قانونية أشد صلابة عبر القضاء الدولي وآليات المساءلة العابرة للحدود.
في هذا السياق، يتبدّى الواجب الجماهيري العربي لا بوصفه ردّ فعل عاطفيًا، بل باعتباره خطة عمل طويلة النفس. المطلوب أولًا تحويل التعاطف إلى طاقة ضغط قابلة للقياس، على شكل مقاطعات اقتصادية وثقافية وأكاديمية ذكيّة، محددة الهدف، تُصاغ على أساس الخرائط الفعلية لسلاسل التوريد والتمويل لا على أساس الشعارات. (ما لا يُقاس لا يُدار) لذا ينبغي للحملات الشعبية أن تُعلن مؤشرات أداء واضحة، الشركات المستهدفة، أدوات الضغط (مستهلك/مستثمر/ عامل/ طالب)، الأفق الزمني، ثم تعلن نتائج مرحلية بشفافية لرفع المصداقية وتوسيع المشاركة. على المستوى السردي، يلزم نقل القضية من قفص (الاصطفاف الهوياتي) إلى فضاء العدالة الكونية، فلسطين ليست اختبارًا لدينٍ أو أيديولوجيا، بل اختبارٌ لمعنى الإنسان في عالم يزعم أنه ما بعد استعمار. هذا يقتضي إنتاج محتوى متعدد اللغات، قصيرًا وعميقًا في آن، مدعومًا ببيانات ووسائط موثّقة، وتوزيعه عبر شبكات مؤثِّرين ونقابات وجمعيات مهنية وجامعات وجاليات، مع الاستثمار في منصات بديلة تقل فيها انحيازات الخوارزميات التي تُخمِد الرواية الفلسطينية.
والوحدة هنا ليست ترفًا خطابيًا. الانقسام الأيديولوجي يذوب عندما يتحدد الهدف بدقة، وقف الاستعمار وإقرار الحقوق غير القابلة للتصرف. ما يجمع التيارات القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية في هذه الساحة أكبر بكثير مما يفرقها؛ شرطه الوحيد هو احترام قواعد لعبة مشتركة، اختلافٌ داخل البيت، ووحدةٌ عند الفعل. تُترجم هذه الوحدة إلى جبهات عمل متكاملة، جبهة قانونية تستثمر في الولاية القضائية العالمية وتوثيق الجرائم وفق معايير الإثبات. وجبهة اقتصادية تلاحق التمويل وسلاسل الإمداد عبر حملات سحب استثمارات ومساءلات مساهمين وسياسات مشتريات عامة نظيفة. وجبهة نقابية عمالية ومهنية قادرة على تحويل الموانئ والجامعات والمستشفيات واتحادات الفنانين إلى بؤر ضغط أخلاقي عملي. وجبهة ثقافية/رياضية تُحوّل (القوة الناعمة) من استعارة إلى قرارات ملموسة تمنع التواطؤ وتكسر تطبيع الصورة.
ولأن الميدان اليوم رقمي بامتياز، فالمعركة مع المنصّات لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض. يلزمنا أمنٌ رقمي أساسي لحماية النشطاء من الاستهداف، ومختبرات تحقق عربية عابرة للحدود تكشف التلاعب البصري والسردي، ومستودعات مفتوحة للبيانات والصور الموثّقة تحفظ الذاكرة وتزوّد المحامين والصحافيين والبرلمانيين بالمواد القابلة للاستخدام القانوني والإعلامي. ومع كل ذلك، لا بد من حاضنة تمويل مجتمعية صغيرة وشفافة تُموِّل الحملات المحلية السريعة، ملصق، فيلم قصير، قضية قضائية، تدريب نقابي، وفد طلابي… فالحركات لا تعيش على الخطابات بل على (البنية التحتية للمقاومة المدنية).
يبقى أن نعيد تعريف (التهديد الوجودي) بالنسبة للجماهير العربية. الخطر لا يأتي من فلسطين، بل من استمرار أنظمةٍ تجعل أمنها مرتبطًا بقبول الظلم، ومن مشاريع إدماجٍ تطبيعي تقتطع من السيادة ومن الذاكرة، ثم تُسوَّق بوصفها طريقًا للازدهار. الضغط الشعبي الذكيّ قادر على تصويب البوصلة، لا شرعية لعلاقةٍ مع الاحتلال خارج إطار الحقوق الفلسطينية الكاملة، ولا معنى لأي حديث عن تنميةٍ تُبنى على أنقاض العدالة. إن قوة هذا الوطن العربي – عندما يريد – في سوقه الواسع، وشبابه المتعلم، وجالياته المنتشرة عالميًا، ونقاباته ومهنييه ومبدعيه؛ وكلها أدوات يمكن تحويلها إلى قوة أخلاقية مؤثرة إذا تخلّت عن ردّ الفعل الموسمي واعتنقت العمل المنظم المتراكم.
ليست فلسطين وحدها مَن تُختبر اليوم، فالمرآة منصوبة لنا جميعًا. سنُحاسَب – كشعب وكمؤسسات – على قدرتنا في تحويل الزخم إلى سياسة، والغضب إلى نتائج، والقيم إلى إجراءات. الطريق معروف، بأنه سردية إنسانية دقيقة لا تساوم على الحق، ضغطٌ اقتصادي وقانوني وثقافي متدرّج لا يتعب، وحدةُ قاعدة شعبية تتسع ولا تُقصي، واستراتيجية طويلة النفس تعرف متى ترفع الصوت ومتى تُحصي المكاسب الصغيرة التي تراكم النصر الكبير. في هذا الامتحان، لا نحتاج ضوضاء إضافية، نحتاج فعلًا منظمًا لا يهدأ حتى تصبح العدالة في فلسطين حقيقةً لا شعارًا، وعندها فقط يكون قد استقام ميزان العالم، واستعاد الامة العربية – بالفعل لا بالقول – معنى الكرامة المشتركة.
اللحظة الراهنة هي اختبار حقيقي لضمير العالم، ولكنها أيضًا اختبار لإرادة الأمة العربية. ليست القضية فلسطينية فقط، بل هي قضية كرامة عربية وإنسانية. التاريخ لن يسألنا عن عدد المسيرات التي خرجنا فيها، بل عن مدى فاعليتنا في تحويل هذا الزخم إلى قوة تغيير حقيقية. الشعار الوحيد الذي يجب أن يرفعه الجميع الآن هو: لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة، ولا شرعية لأي نظام يعيقها.