مقالات
كلنا معتقلون مؤجلاً”: كيف يصنع الاعتقال السياسي مجتمعات خائفة وصامتة؟بقلم طارق عبد اللطيف ابو عكرمة
بقلم طارق عبد اللطيف ابو عكرمة -السودان -

كلنا معتقلون مؤجلاً”: كيف يصنع الاعتقال السياسي مجتمعات خائفة وصامتة؟
طارق عبد اللطيف ابو عكرمة -السودان –
في زمن تتوارى فيه الحرية خلف لغة الدولة، ويتحول القانون إلى س.لاح انتقائي، يُصبح الاعتقال السياسي ليس مجرد ممارسة قم.عية؛ بل بنية عميقة لإنتاج المجتمع نفسه. لا يُعتقل الناس فقط في الس.جون، بل في بيوتهم، في مقاهيهم، في صمتهم الطويل، في رسائلهم المؤجلة، في جملهم المبتورة، في نظراتهم الحذرة. كلنا معتقلون مؤجلاً، لا لأننا مجرمون، بل لأن النظام يرى في كل صوت محتمل نذير تهديد.
في المجتمعات التي تتكئ على الق.مع كأداة حكم، لا يُصاغ السجن كاستثناء، بل كقاعدة مخفية. يتمدد الاعتقال السياسي ليشمل مساحات الحياة اليومية كلها. ليس في أن تُس.جن بالفعل، بل أن تعيش وأنت تعرف أنك قد تُس.جن في أي لحظة. وهكذا، يتجذر منطق الرع.ب: حين يعتقد الإنسان أن مجرد اعتراضه، أو حتى سؤاله، يمكن أن يُفسر كج.ريمة ضد النظام أو “تقويض دستوري” أو “تحريض على الدولة” أو “نشر معلومات مضللة”، فإن الصمت يصبح مهارة بقاء، لا خياراً أخلاقياً.
في السودان، كما في غيره من دول الاستبداد المقنّع، تعيد الح.رب الأخيرة تشكيل آلية الق.مع من جديد، ولكن بأدوات أكثر توح.شاً. لم يعد المعتقل السياسي شخصاً بعينه، له تهمة، وملف، ومحامٍ. بل أصبح وجهاً مجهولاً في غرفة مظلمة، لا يعرف ذويه عنه شيئاً، ولا يُسجَّل في أي قوائم، ولا تعترف به أي جهة. تُعتقل الكلمة، والموقف، والتعبير، وتُجرَّم النية. والمعتقل هذه المرة لا يخرج للمحاكمة، بل يُدفن في الخفاء، أو يُنسى في صمت.
السؤال هنا ليس فقط عن عدد المعتقلين، بل عن عدد الذين تخلّوا عن آرائهم خوفاً من المصير ذاته. كم عدد الأصوات التي خنقتها الكوابيس؟ كم عدد المثقفين الذين غادروا المساحات العامة لأنهم شعروا أن الفكرة باتت أكثر كلفة من الصمت؟ كم من الشهود باتوا شهود زور، فقط لأن قول الحقيقة قد يجرّهم إلى الزنزانة ذاتها التي دخلوها يوماً أو رأوا عواقبها في آخرين؟
إن الاعتقال السياسي لا يستهدف فقط جسد الفرد، بل يستهدف البنية الاجتماعية بأكملها. إنه يُعيد تعريف “الطبيعي”، فيصبح الصمت حكمة، والخوف عقلانية، والحياد فضيلة، وتُصبح الم.قاومة فعلاً طائشاً أو ان.تحارياً. وهكذا، يتحول المجتمع شيئاً فشيئاً إلى جمهور متفرج على جرحه، غير قادر على لمسه أو حتى تسميته.
ومن المفارقات المريرة أن الح.بس الانفرادي هو أقسى أنواع العقاب داخل الس.جن، لكن خارجه، يُفرض على ملايين البشر دون أن يدخلوه فعلياً. كل فرد معزول داخل أسواره النفسية. كل مواطن خائف من جاره، أو هاتفه، أو حتى تفكيره. إنها دولة الاعتقال غير المعلَن، التي تُدار بالبثّ الإعلامي، بالتخوين، وبالإشارات، وبالتلميح بأن “الباب قد يُطرق عليك في أي لحظة”.
الاعتقال السياسي لا ينفصل عن هندسة أكبر للوعي الجمعي، يعيد فيها النظام تعريف المواطنة. فالمواطن الجيد هو المواطن الصامت، الراضي، المُطيع. أما المواطن الذي يسأل، أو يطالب، أو يحتج، فهو متهم محتمل. وتُصبح بذلك الوطنية هي الخضوع، وتُصبح المعارضة خيانة، وتُستبدَل الدولة بالفصيل، والدستور بالمرجعية الأمنية، والحق بالإذن.
لكن الأسوأ من كل ذلك، أن المجتمعات الخائفة تُنتج أجيالاً تخاف من أن تحلم. الطفل الذي يرى والده يُعتقل بلا تهمة، والمرأة التي ترى أخاها يختفي في سجن لا عنوان له، والمثقف الذي يرى زميله يُكسر صوته، كل هؤلاء يحملون معهم بذور الخوف إلى مستقبل البلاد. فتُصبح الحرية كلمة من الماضي، تُروى لا تُعاش، ويُحكى عنها كما يُحكى عن الأساطير.
فكيف يُقاوَم هذا النمط من السلطة؟ ليس فقط بالبيانات والشجب، بل باستعادة اللغة. حين يُعتقل الناس، تُعتقل الكلمات أولاً. ويكون تحرير المفردات، واستعادة الحق في تسمية الأشياء بأسمائها، فعلاً ثورياً في ذاته. أن نقول “معتقل سياسي” لا “مُشتبه”، أن نقول “قمع” لا “إجراء أمني”، أن نقول “مواطِن” لا “تابع”، أن نقول “وطن” لا “نظام”. فالكلمات، كما يقول فوكو، هي أسلحة في وجه السُلطة الرمزية.
لذلك، لا بد من حملات إعلامية صادقة وموثّقة تُحصي المعتقلين، وتسمّيهم، وتوثّق لحظات غيابهم، وتُحمّل الجهات المسؤولية الكاملة عن مصيرهم. لأن الصمت يقتلهم مرتين: مرة حين يُعتقلون، ومرة حين ننساهم. والأنظمة لا تخشى الصوت العالي فقط، بل تخشى التوثيق، تخشى أن تُحرج أمام التاريخ، أن يُسجّل أنها كانت الجلاد بلا رادع، وأن المجتمع كان الشاهد الصامت.
الخاتمة:
إن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس فقط: “كم عدد المعتقلين؟”، بل: “كم عدد الذين تخلّوا عن أصواتهم خوفاً من المصير ذاته؟” وهل يمكن لمجتمع أن ينهض فيما أفراده مقموعون حتى داخل ضمائرهم؟ إذا كنا جميعاً معتقلين مؤجلاً، كما يقول العنوان، فمتى نكسر هذا الموعد المؤجل، ونعلن حرية الفكر والكرامة كمبدأ لا يُساوَم عليه؟ وهل يمكن لأمة كاملة أن تتحرر، إذا ظلت سجينة الخوف؟