بثلاثين قصيدة صارت الأشهر بين شعراء أمريكا: آن سبنسر شاعرة البحث عن الوجود

بثلاثين قصيدة صارت الأشهر بين شعراء أمريكا: آن سبنسر شاعرة البحث عن الوجود
سارة حامد حواس
شاعرةٌ بالفطرة، كانت تكتب شعرها في قصاقيص الورق حينما تفيض منها الكلمات، لم تهتم بالنشر والشهرة قدر اهتمامها بفعل الكتابة نفسه والمتعة التي تصاحبها حتَّى أن أول قصيدة نُشرت لها كانت في سن الثامنة والثلاثين، رغم أنها بدأت كتابة الشعر وهي في الحادية عشرة.
لم تبحث عن مسمَّى ”شاعرة”، لكنَّها كانت تعشق الشِّعر، وتهتم بكتابته وقراءته، منذ أن كانت طفلة.
شاعرة كانت تبحث عن المعنى والوجود من خلال كتاباتها الشعرية ومساعدة الآخرين.
لعبت دورًا كبيرًا في تحسين الظروف القانونية والاجتماعية والاقتصادية لحياة الأمريكيين من أصل أفريقي في لينشبرغ بولاية فرجينيا، كما أصبح منزل عائلة سبنسر في شارع بيرس صالونًا ثقافيًّا للعديد من الضيوف البارزين، كما كان يوفر الضيافة للمسافرين الأمريكيين من أصل أفريقي عندما كانت قوانين الفصل العنصري تمنعهم من الإقامة في الفنادق أو تناول الطعام في المطاعم الفاخرة. هذه الشاعرة كان لها حديقتها وكوخ الكتابة الخاص بها، حيث كانت تنفرد بنفسها وأفكارها.
شاعرةٌ كانت تؤمن بالرومانسية والحب في وقتٍ لم يكن للحب مكان، حيث كانت المشكلات السياسية والاجتماعية تحتل المكانة العليا في كتابات الشعراء الأفرو-أمريكيين.
هل كان هذا بسبب وجود زوج داعم وملهم للكتابة عنه، أم رغبةً منها في الهروب من المشكلات إلى عالمٍ موازٍ خاص بها بعيدًا عن الظروف المجتمعية المؤلمة التي فرضتها عليها جغرافيتها؟ أم أرادت أن تختلف عن مجايليها من الشعراء والشاعرات وتكتب عن حبٍ فُقد في مجتمع أسود؟
امرأةٌ تؤمن بالحب حتى أنها آثرت مساعدة الآخرين عن الاهتمام بنشر قصائدها في كتب، فأرادت أن تنشر الحب بدلا من الكتب.
إنَّها الشاعرة الأمريكية آن سبنسر، التي وُلِدت باسم ”آني بيثيل بانستر” لجويل سيفوس بانستر وسارة لويز سكيلز في عام 1882، في مزرعة بمقاطعة هنري، بولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية. كان والداها من أصول مختلطة.
فقد وُلد والدها عبدًا في مقاطعة هنري وكان من أصول أفريقية بيضاء، من قبيلة السيمنول الهندية.
أمَّا والدتها فولدت في مزرعة روك سبرينغ، في كريتز، بولاية فرجينيا، في مقاطعة باتريك المجاورة.
وبعد ولادة آن بفترة قصيرة، انتقلت العائلة إلى ما تينزفيل، حيث افتتح والدها صالونًا للحلاقة، وبعد عدة سنوات انفصل الوالدان، وأخذت سارة ابنتها آن إلى برامويل، بفرجينيا الغربية، ونظرًا للصعوبات المادية وضعتها في رعاية أسرة ويليام ديكسي وزوجته، وهما زوجان بارزان من الأمريكيين الأفارقة، حتى تتمكن سارة من العمل بدوامٍ كاملٍ.
بدأت سبنسر وهي في الحادية عشرة من عمرها دراستها في معهد فرجينيا اللاهوتي في لينشبرغ بولاية فرجينيا والذي يُعرف الآن بجامعة فرجينيا في لينشبرغ، وامتازت بوصفها طالبة في الأدب واللغات وتخرجت بتفوق في عام 1899.
عملت سبنسر بوصفها معلمة لمدة عامين قبل أن تتزوج من إدوارد ألكسندر سبنسر في عام 1901. كان الاثنان زميلين في الدراسة، حيث قام إدوارد بتدريس الرياضيات والعلوم لآن، بينما ساعدته هي في تدريس اللغات وأصبح إدوارد أول ساعي بريد أمريكي من أصل أفريقي في لينشبرغ، بالإضافة إلى عمله بوصفه مقاولا.
عاش الزوجان في منزل أصبح متحف ”منزل وحديقة آن”. كان منزلهم ملاذاً ومكانًا يلتقي فيه العديد من الكُتَّاب والعلماء وقادة الحقوق المدنية بمن فيهم الشاعر الأمريكي لانغستون هيوز والشاعرة غويندلون بروكس والشاعرة مايا أنجيلو والكاتبة زورا نيل هيرستون والناشط الحقوقي مارتن لوثر، وغيرهم.
كان التعليم ذا أهمية قصوى لعائلة سبنسر، وكذلك النضال من أجل الحقوق المدنية.
وسافر الكاتب وناشط الحقوق المدنية الأمريكي جيمس ويلدون جونسون Johnson1971- إلى لينشبرغ للمساعدة في إنشاء فرع الجمعية، وخلال هذه الفترة اكتشف مواهب آن الأدبية وشجعها على نشر كتاباتها الشعرية، واختار لها أيضًا اسمها الأدبي ”آن سبنسر”، ثم رشحها بعد ذلك إلى الكاتب الأمريكي هنري لويس منكن في مجلة «كرايسس» ونشرا قصيدتها «قبل وليمة شوشان» في عام 1920، أي كانت في الثامنة والثلاثين من عمرها، كما ضم جونسون شعر سبنسر في مختاراته لعام 1922 ”كتاب الشعر الأمريكي الزنجي»، ونشرت قصائد في مجلات كثيرة كانت كلها مرتبطة بحركة نهضة هارلم الأدبية والفنية.
وعلى الرغم من أن سبنسر بقيت في ولاية فرجينيا طوال حياتها، فإنها حافظت على صداقاتٍ وثيقة مع كُتَّاب آخرين من عصر نهضة هارلم طوال حياتها، بما في ذلك جونسون ولانغستون هيوز وزورا نيل هيرستون وكاونتي كولين. وعلى عكس العديد من الكُتَّاب الآخرين، لم تقم آن بجولات لإلقاء محاضرات أو زيارات ترويجية حول العالم، فعاشت وعملت معظم سنوات حياتها في لينشبرغ بفرجينيا حتى كان الكُتَّاب والموسيقيون البارزون في المجتمع الأسود يأتون إليها بدلًا من أن تذهب إليهم، وهناك الكثير من الأسماء التي سبق أن ذكرتها في بداية كتابتي عن الشاعرة.
وعلى الرَّغم من إنتاجها الشعري الغزير، فإن سبنسر نشرت عددًا قليلًا من القصائد بعد وفاة جونسون في عام 1938، ونشرت ما يقرب من 30 قصيدة فقط خلال حياتها، ولكن جودة أعمالها جعلتها من الشاعرات البارزات في القرن العشرين، فكانت سبنسر أول شاعرة أمريكية من أصل أفريقي تنشر في ”مختارات نورتون للشعر الحديث».
ولم تصدر أيضًا أي مجموعة شعرية خلال حياتها، إذ كانت غالبًا ما تشعر بالإحباط بسبب المحررين والناشرين الذين كانوا يفرضون الرقابة على عملها أو يسيئون فهمه.
استخدمت سبنسر الأشكال التقليدية في كتابة الشعر كالسوناتات، والمراثي والأبيغرام عن تعبير موجز وذكي، وغالبًا ما يكون ساخرًا أو قصيدة قصيرة. يعود أصل المصطلح إلى الكلمة اليونانية التي تعني ”نقش”، وكان يستخدم تاريخيًا للإشارة إلى النقوش على النُصب التذكارية، ويشير عادة إلى ملاحظة قصيرة لا تُنسى؛ تُقدم رؤية مضحكة أو عميقة حول شخص أو موقف أو فكرة، سواء كانت في شكل نثر أو شعر.
ومعظم قصائد سبنسر قصيرة، حيث نادرًا ما تجاوزت العشرين سطرًا.
وقد استلهمت شعرها من موضوعات مختلفة مثل الدين والأساطير والطبيعة وحديقتها والحب، كما كانت تبحث من خلال كتاباتها الشعرية عن الجمال والمعنى في عالمٍ قاسٍ، فسبنسر شاعرة تتسم بالتنوع برغم تبنيها الأشكال التقليدية في الكتابة الشعرية، حتى أنها كتبت قصيدة تجسد الحب الحسي وهي ”رجلي الأسود» وقد أحببتها وترجمته لما فيها من صور حسية عميقة تجسد الحب الصادق والعطاء والمنح في علاقة بين رجلٍ وامرأةٍ.
استطاعت سبنسر أن تدمج بين التقليدية في الأشكال الشعرية والحداثة في الموضوعات بشكلٍ مبتكر وعفوي، فعندما تقرأ قصائدها، تستشعر أن ليس هناك أي مغالاة في التعبير، بل عفوية وبراءة غير مُتعمدة، حتى في قصيدتها ”رجلي الأسود” التي احتفت فيها، بحسيةٍ، بحبها لرجلها الأسود، إلا أنها مليئة بالتعبيرات البريئة التي تخلو من الابتذال.
كما أن اهتمام سبنسر بالبستنة وحديقتها كان انعكاسًا للعلاقة الروحية التي تربطها بالطبيعة والخالق وذلك أضفى نوعًا من البساطة والروحانية التي اتسمت بها قصائدها أيضًا. مكان الحديقة كان ملهمًا لها وغالبًا ما كانت تقرأ وتكتب حتى ساعات متأخرة من الليل. عملت سبنسر أيضًا لمدة عشرين عامًا بوصفها أمينة مكتبة، ففي عام 1924 أحضرت آن نسخة من كتاباتها إلى مقابلة عمل لمنصب أمينة مكتبة، وبفضل مصداقيتها الأدبية استطاعت إقناع مجلس مدارس لينشبرغ بالسماح لها بإدارة أول مكتبة مفتوحة لمواطني المدينة السود، حيث بدأت هذه المكتبة في مدرسة دنبار الثانوية المنفصلة باستخدام مجموعة كتبها الخاصة. وعملت أيضا بوصفها معلمة بدوام جزئي للأدب واللغة في المدرسة نفسها، مدرسة بول لورانس دنبار، المدرسة المخصصة للسود في لينشبرغ.
شاركت أيضًا في العديد من اللجان المحلية لتحسين الظروف القانونية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمعها، وكانت تكتب كثيرًا للصحف والمسؤولين المحليين حول هذه القضايا، كما كانت ترفض ركوب الحافلات وعربات الشوارع المنفصلة عنصريًا.
كانت سبنسر شخصية مثيرة للجدل داخل المجتمع الأمريكي من أصل أفريقي في منتصف القرن العشرين بسبب تفضيلها ارتداء البنطال ونفورها من دمج المدارس، وفي الوقت نفسه، أثارت استياء البيض بسبب خطاباتها القوية ضد سيادة البيض، فكانت صريحة في معارضتها ودافعت عن الحقوق المدنية وحقوق المرأة واحترام وكرامة الناس، فكثيرًا ما تصادمت مع المجتمع الأبيض في لينشبرغ، لكن تفاصيل تلك المواجهات لم تُوثق بشكل جيد. وقال كاتب سيرتها: «تعرضت آن للمقاطعة والسخرية الشخصية والإهانات العنصرية والمواقف العدائية العامة في معظم حياتها، ومع ذلك، تحملت ذلك بقوة وشجاعة وإصرار».
وأرى أن آن سبنسر شاعرة مختلفة من حيث التكوين الثقافي والإنساني، كانت مليئة بالحب والشعر، وبرغم أنها آثرت الحب على الشعر في التعبير عن حبها بالمنح والعطاء وجعْل بيتها ملاذًا للسود، فإنها تُعتبر من أهم الأصوات الشعرية في المجتمع الأفرو-أمريكي، ومن ثم جاءت سبنسر لتُثبت لنا أن الثراء الأدبي لا يُقاس أبداً بعدده بل بجودته وتأثيره الذي يبقى مهما مرت السنون.
توفيت سبنسر في عام 1975، وهي في الثالثة والتسعين من عمرها إثر إصابتها بالسرطان، ودُفنت بجانب زوجها الذي توفي في عام 1964، في مقبرة فورست هيلز بلينشبرغ، وفي عام 2019 أعلنت خدمة البريد الأمريكية أن سبنسر ستُكرم بطابع بريد ضمن سلسلة ”أصوات نهضة هارلم».