ثقافة وفنون

أوبرا تحقق نجاحاً مذهلاً على مسارح عالمية: ماذا لو تخلّى عطيل عن سواده؟

أوبرا تحقق نجاحاً مذهلاً على مسارح عالمية: ماذا لو تخلّى عطيل عن سواده؟

بهاء بن نوار

بعد النجاح الكاسح الذي حقّقتْه أوبرا «عايدة» للموسيقار الشهير فيردي، تورّط في صمتٍ طويلٍ دام ستّ عشرة سنةً، خاب خلالها ظنُّ محبِّيه، وابتهج كثيرا مُنافسوه، إلى أن باغتهما معا سنة 1887 بعملٍ جديدٍ هو أوبرا «أوتيلو» أو «عطيل» كما درجت الترجمات العربيّة، حقّقت نجاحا مُذهلا، وما تزال إلى حدّ اليوم تُعرَض في جميع المسارح العالميّة.
وقد اِخترتُ مقاربة عرضٍ حديثٍ لها في مسرح ريال الإسبانيّ، الذي تميّز بتحديث النماذج الكلاسيكيّة، ممّا يمكن توضيحُه فيما يأتي:

1- تفرّد مظاهر الشخوص:

يبدأ العرضُ بمشهد العاصفة، وقد عُبِّر عنها باستعمال تقنية الإضاءة التي تخفت حينا وتسطع آخر، ممّا يوحي بمنظر البرق العاصف، لتستقرّ الإضاءة أخيرا إيحاءً باستقرار الجوّ وهدوئه، وقد ظهر «عطيل» حاملا علما تركيّا ممزّقا كنايةً بصَريّةً عن هزيمة الأتراك، ليلفت انتباهنا وقد بدا وخلافا لجميع الصور النمطيّة عنه مُنسدِلَ الشعر لا أكْرتَه، أبيضَ البشرة لا أسودها ولا حتّى أسمرَها، ممّا يفتّق في أذهاننا أسئلةً كثيرةً حول هذا الأمر، ولعلّه يشكل أهمّ نقطة بارزة في العرض وجالبة لاهتمام المتلقي وفضوله: فما هو سرُّ بياض «عطيل» الاستثنائيّ هنا؟ وخروجه بالتالي عن طوق المرجعيْن الشكسبيريّ والفيرديّ؟ فما قام به شكسبير من اختيار عاشقٍ أفريقيٍّ، متدفِّقِ المشاعر، تحرّر منه معدّو هذا العرض، ولم يحافظوا إلّا على صفة الكهولة وانفلات الشباب، ممّا يوحي برغبةٍ كامنةٍ في تقليص نقاط عدم تكافؤ العلاقة واختصارها في عنصر السنّ، ولعلّ في هذا نزوعٌ نحو توسيع التجربة، وعدم قصرها على محدّداتٍ عِرقيّة، وكذا التملّص من أطر النصّ الشكسبيريّ ومحاولة للانفلات منه.
وبتأمّلنا لتفاصيل بقيّة الشخوص، فإنّنا نلمس صفاتٍ أخرى ميّزتها، وافترقت بها عن أصولها الشكسبيريّة، وأهمّها صفاتها المظهريّة، التي بدت من خلالها بأزياء حديثة، قريبةٍ من زمننا الراهن، فبدا عطيل مرتديا معطفا زيتونيّ اللون ـ إلماحا إلى مهنته العسكريّة ـ وبدا رودريغو ببدلة بيضاء أنيقة ـ إلماحا إلى طبقته النبيلة ـ وبدا كاسيو وياغو وبقيّة الرجال من أفراد الكورس بمعاطف سوداء أو رماديّة، فيما بدت دزدمونة وبقيّة النساء بثيابٍ طويلةٍ وبسيطة تنسجم مع حقبتنا الراهنة، مما يكرّس نزوع هذا العرض «الحديث» نحو الانفلات من المرجع الأدبيّ/ الأوبراليّ. وهو ما نلاحظه من جهةٍ ثانيةٍ من خلال تحوير بعض الأحداث أو الإضافة إليها؛ فنجد على سبيل المثال «عطيل» وتعبيرا عن تصديقه المطلق لادّعاءات ياغو وثقته العالية به يعمد إلى جرح رسغ يده ومثله يفعل ياغو ليعملا معا على أن تمتزج دماؤهما ببعضها تعبيرا عن حالة التماهي المطلق بينهما، واختصارا لأخوة الدم الطارئة عليهما، أو بالأحرى «عهد الدم» أو ما يُعرَف أوبراليّا بـ: «قسَم عطيل»Il Giuramento di Otello وهو ما لم ألمسه في نصّ شكسبير أو فيما أتيحت لي فرصة مشاهدته من عروضٍ سابقة.
وقريبا من هذا، نلمس مشهد «عطيل» بعد أن احتدّت أزمته النفسيّة، وحاصرته الهواجس والشكوك من كلِّ جانب، فلم يجد ملاذه إلا في أيقونةٍ دينيّة لبث محتضنا لها ومحتميا بها ولم ينتزعه منها سوى شيطانه المغوي: ياغو الذي اقتحم جلسته وواصل سكب جرعٍ جديدة من سمومه، وبَعده دزدمونة ملاكه المهمَل، وقد استماتت في محاولات ردّه إلى صوابه دون جدوى، ممّا يرصد في بضع لقطات خاطفة معاناة إنسانيّةً غائرةً، ويختصر فسحا تعبيريّةً شاسعةً تشكل مفصلَ هذا العمل وصميمه.
ونجد أيضا كاسيو ـ وعلى عكس ما صوّره شكسبير من كونه زاهدا في الشراب مترفعا عن السكر–سكيرا متهافتا على العربدة والعبث، كما بدا في مشهد المكاشفة الحميمة بينه وبين ياغو حول عشقه ـ المزعوم ـ لدزدمونة، فبدا حاملا زجاجة خمر وكأسا لم ينِ يعبّ منها دون تردّد، وقد أخذ السكرُ منه تدريجيّا، ممّا بدا جليّا من خلال ترنّحه وتخاذل جسده، وكذا قهقهاته الكثيرة المتجاوزة حدودَ النصّ الفيرديّ، وإقدامه في غمرة هذا كلّه على رمي أيقونة عطيل التي عُلّقت بإجلالٍ على الجدار ببعض السهام الصغيرة، ممّا يوحــي بحــالٍ عميــقةٍ من الهزء والاستصغار قد لا تكون مقصودةً ولكنها تنســـجم تماما مع طبيعة المشهد وما يعجّ به من مغــالطات: عطيل المتلصّص جريحا، وكاسيو المغرَّر به سكران، وياغو الهازئ بكليْهما، والمحرّك لهما حسب هواه.

2- بساطة الديكور:

وإلى جانب هذا يمكننا ملاحظة بساطة الديكور أو بالأحرى تقشّفه البادي من خلال بضعة كراسٍ عاديّةٍ مصطفّةٍ أقصى اليسار، وأريكةٍ جلديّةٍ باليةٍ ومهترئةٍ هي مقعد عطيل «الوثير» وإيماءٌ إلى منصبه العالي الذي سيحلّ فيه كاسيو في آخر الفصل الثالث، ولا يخفى ما في هذا من إيحاءٍ بهشاشة سلطته، وضعف موقعه، وتعرّضه المطلق لجميع التقلّبات وأنماط الغشِّ والتدليس، لوقوعه وسط المسرح وغياب أيِّ جدارٍ داعمٍ أو حامٍ خلفه أو يمينه أو شِماله. ويستمرّ هذا التقشّف المقصود حتّى الفصل الرابع والأخير، حيث تُعدم دزدمونة وتموت لا على مخدعها كما يثبت النصُّ الشكسبيريّ وأغلب العروض الأخرى المستوحاة منه، مع ما تستجلبه هذه الميتة الدراميّة من معانٍ مأساويّةٍ نابعةٍ في أغلبها من انقلاب سرير العشق والغرام إلى تابوت الموت والغياب، بل تُعدَم وتجود بأنفاسها على أرضية المسرح العارية الجرداء، وتبقى جثّتها ملقاةً بإهمالٍ هناك حتى آخر العرض.

3- اِنشطار الإضاءة:

ولدى تركيزنا على عنصر الإضاءة التي تعمّد معدّوها جعلها تترك ظلا ثقيلا ومفصّلا لكلِّ شخصيّة تظهر على المسرح، ولئن غضضنا البصرَ عن أغلبها وركّزنا على شخصيّة عطيل الماثل دائما وظلّه لبدا لنا معنى انشطاريّ يحيل إلى حالة الازدواج الخطيرة التي يعانيها هذا البطل، فهو عاشقٌ وحاقدٌ، هادئٌ وثائرٌ، مسالمٌ ودمويّ، حائرٌ بين عقله الذي يصدّق ياغو وقلبه الذي يأبى إلا تبرئة الحبيبة، مترنّحٌ بين أدلّة الخيانة المفترَضة وقد بلغت غاية وضوحها لحظة استعراض كاسيو المنديلَ، وبين ذكريات الحب الدفين ونداءاته، فلا يكاد يلفظ عبارة حقد واحدة حتى يرجّع ظلّه ـ افتراضيّا ـ عبارات حب مناقضة، أو العكس. وهو ما يختلف تماما عن ظلِّ ياغو الشرير، الذي لا يعكس صراعا أو عناءً نفسيّا بل يعكس ازدواجيّة هذه الشخصيّة وتراوح حضورها بين الملائكيّة والطيبة أو الشيطانيّة والشرّ، فنلمس أولهما ـ على سبيل المثال ـ لدى تورط كاسيو في ذاك الشجار المدبَّر ومحاولة عطيل معرفة التفاصيل مخاطبا إياه بـ: «ياغو الأمين» وردّه وقد ارتسمت على وجهه ملامح الوداعة والبراءة الناصعة: «لا أدري!» ونلمس الثاني لدى اختلائه بنفسه بداية الفصل الثاني وقد أزاح جميع أقنعة التنكّر والرياء وواجهنا بوجهه الحقيقيّ؛ وجه المكر والشرّ الدفين: «أؤمن بإلهٍ قاسٍ خلقني مماثلا له!» ووجه اليأس وعدم اليقين: «الموت هو العدم!».

4- تحوير الخاتمة:

وإضافةً إلى هذا يمكننا ملاحظة ما طرأ على الخاتمة من تحويرٍ فائضٍ، لم يُمنع فيها عطيل من حيازة السلاح، ولم يُحجَر عليه عقابا، ولا هُدّد ياغو أو تُوُعِّد برهيب العذاب، ولم يُجرح كاسيو أو يُصب بأيّ أذى، ولا قُتلت إيميليا، بل مثل هؤلاء الثلاثة: ياغو وكاسيو وإيميليا ومعهم لودوفيكو وأحدُ الجنود بصمتٍ شهودا على خاتمة مأساة عطيل، وقد عبّر عن ندمه أروع تعبير، وبكى وانتحب أشدّ النحيب، ولم يبق أمامه سوى الاقتصاص من نفسه الظالمة ـ أو المظلومة ـ فانتزع سيفَ الجنديّ من دون أن يحاول منعَه أحد، ولم يلبث بعد أن لوّح به، وبعد أن توهمناه سينتحر أو سيقتل أحدا عن طريقه أن ألقاه بعيدا، زافرا بيأس، وعاد إلى جثمان زوجته ليرثيها رثاءه الأخير، بصوته المفرد دون موسيقى: «دزدمونة! دزدمونة! آه! ميْتة! ميْتة! ميْتة!» ويباغتنا بإخراج خنجرٍ مخبّإ في ثيابه ـ هو نفسه الذي وثّق به عرى أخوّة الدم مع ياغو ـ لا يلبث أن يذبح به نفسه، ويخرّ محتضرا بعيدا عن جثة حبيبته، التي لم يسعفه الأجلُ لضمّها وطلب مزيدٍ من المغفرة منها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب