ثقافة وفنون

أسئلة البدايات وغيرها

أسئلة البدايات وغيرها

أمير تاج السر

كاتب سوداني

منذ أيام التقيت في دبي المعروفة بحيويتها وفورانها، وضمها لكل أنشطة الدنيا، بزميل قديم، أعرفه من أيام البدايات، حيث كنا نكتب الشعر العامي، أو الغنائي، معا، ومع آخرين، في مدينة بورتسودان، ونحاول العثور على موقع لنا في عالم كان في ذلك الوقت محصورا على عدد قليل من الشعراء.
كان أقصى الطموح آنذاك أن يتغنى بقصائدنا مغنون معروفون أو حتى مغمورون، ونحصد إعجاب الزملاء في المدرسة، والمحتفلون في حفلات العرس التي نذهب إليها بكثير من الغرور الساذج، ونقتنص نظرات الحسد من الذين لا يعرفون تلك الصنعة.
زميلي القديم هذا، توقف تماما عما سماه العبث الصبياني، واتجه لنشاطات أخرى، ولم أره أو أسمع عنه منذ زمن طويل، وعرفت منه الآن، أنه هاجر إلى أمريكا، حيث حصل على حياة أفضل كما يقول، ونجح في التجارة في مجال الأدوية.
سألني وهو ينظر لي بعمق، كأنه يكتشفني لأول مرة:
بعد كل هذا العمر، لو عدت مرة أخرى إلى أيام البدايات، هل ستسلك طريق الكتابة نفسه؟
حقيقة هذا السؤال ليس جديدا، وقد واجهني مرات عديدة من أشخاص يعرفونني وأشخاص لا يعرفونني، وأستغرب دائما، ماذا يعني أن يسألك أحدهم وقد شخت في درب ما، عما ستفعله، لو عاد بك الزمن إلى الوراء، وأظنه واحدا من أسئلة الفضول التي لا تعني سوى الحصول على معلومة، غالبا غير مهمة، وأصلا الإجابة غير مهمة، لأن لا أحد يرجع إلى الوراء، ليختار من جديد، وحتى المستقبل نفسه، لا أحد يستطيع صناعته باختياره، إنها دروب مفصلة للكل، ونسير فيها باحترام أو نزق، لا مشكلة في ذلك.
قلت للزميل القديم، الذي لم يتشجع في وقت كتابتنا للشعر، بسبب عدم صبره، أو زهده، أو شعوره بأن الطريق وعر، ويحتاج لكثير من العناء:
لو عدت، لكتبت مرة أخرى.
ولأن الإجابة كانت تقليدية، وهي أيضا الإجابة المثالية، ولعلها الوحيدة لسؤال كهذا، تركني الرجل، وانصرف إلى هاتفه الذي رن بغتة، ثم أشار لي بتحية وداع، وانصرف، وهو يعدل من وضع عمامته على رأسه.
مسألة ممارسة نشاط ما، والإصرار على ممارسته، والصبر فيه، رغم الإخفاق والعناء، تعني شيئا واحدا، هو أن الشخص يعشق ذلك النشاط ولن يتخلى عنه مهما كان الثمن، وربما يخسر كثيرا من الوقت والجهد، لكنه يستمر، وبالتالي السؤال عن تخليه لو عاد، لا يبدو منصفا، يمكنك أن تسأل واحدا كتب رواية واحدة، وانصرف عن الكتابة، يمكنك أن تسأل مغنيا ردد أغنيتين فقط، واختفى، ويمكنك أن تسأل تاجرا، تاجر في سلعة ما، ثم تركها لسلعة أخرى، أحس بأنها أفضل.
أذكر في بداياتي كثيرا من المعاناة، كان الأهل دائما يربطون النجاح في المدارس، والوصول إلى مستقبل نقي، بانكباب الطالب على دراسته، ملغيا أي موهبة، وأي نشاط إبداعي، ربما يطرأ عليه، وكنت أكتب الشعر في كراسة صغيرة، أخبئها جيدا، وأخاف أن تكتشفها العائلة، وأستمر في دراستي بالحماس نفسه، ثم كتبت الرواية بعد ذلك، ولم يؤثر ذلك في دراستي شيئا، على العكس كانت الدراسة تعلم الصبر، والصبر كان مهما لتنجز ما أردت إنجازه. وقد اعتاد القراء دائما طرح أسئلة قد يظنها الكاتب غير ضرورية، لكن القارئ وهو يطرحها، يؤمن بجدواها، ويوجد كثير من القراء يؤمنون بأنهم كتاب، يدخرهم المستقبل لكتابة أكثر جدوى من الكتابة التي يرونها الآن، ويتحول بعضهم بالفعل إلى كتاب، قد يقدمون شيئا وقد لا يقدمون، وتجد كثيرا في المخطوطات التي تقرأها حين تكون محكما في الجوائز، تقديما بقلم الكاتب نفسه، يتحدث فيها عن نصه بفخر، ويذكر أنه نص مختلف وجديد، وسيحدث ثورة في عالم الكتابة الإبداعية، وحين تقرأه، تكتشف أنه مجرد نص، مثل عشرات الآلاف من النصوص التي تولد كل يوم، وتموت في المهد.
ومن العادي جدا أن تقدم نفسك لكاتب شاب تجده يقف متوترا في معرض للكتاب، ينتظر القراء ليوقع لهم على روايته، فلا يهتم، وتكتشف لاحقا أنه لا يعرفك ولا يعرف غيرك، ولا يعرف عن الكتابة إلا مقدارا يسيرا، وأنه يعتبر الكتابة تبدأ منه، وتنتهي عنده، ولا شيء آخر.
ومن الأشياء المحبطة جدا، لو اهتم المبدع الحقيقي بالإحباط، وسهل له طريقا للولوج إلى عالمه، أن يطالبك ناشر بتكلفة كتابك، وتدفعها كاملة، ثم تنتظر أشهرا وربما سنوات بعد صدور الكتاب لتحصد شيئا من عائد الكتاب، وتفاجأ بأن لا عائد في الأمر، وعادي جدا أن يخبرك الناشر بأن كتابك مكدس بنسخه في المخازن، ولم يبع شيئا، ولاحقا حين تكبر في العمر، ويكبر اسمك قليلا، ستعرف أن نسخا محدودة جدا صدرت من كتابك، وأنه لم يطرح في أي منفذ من منافذ البيع.
وكنت في بداياتي، دفعت لناشر، بالطريقة المأساوية نفسها، وظللت أنتظر عائدي، شيئا من نقودي التي استثمرتها في نشاط خاسر، ولم أسترد شيئا، أكثر من ذلك حين طالبت بالنسخ المتكدسة في المخازن، لم يرد الناشر، ولم يرد حتى الآن، على الرغم من أنني ألتقيه كثيرا. وعلى الرغم من ذلك، يبدو سؤال الزميل القديم صادما: لو عدت إلى البدايات، هل ستسلك الطريف نفسه؟
نعم، سأسلك الطريق نفسه، سأجرب الجمر نفسه، والمعاناة نفسها، وقد أدفع للناشر الذي لم يصدر سوى عشر نسخ من كتابي، نفسه، من أجل أن يصدر نسخا وهمية، يقول بأنها مكدسة في المخازن، ولا أحد يشتريها.

٭ كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب