ثقافة وفنون

من الوحي إلى الشاشة: أحفاد النبي محمد والتدين الرقمي

من الوحي إلى الشاشة: أحفاد النبي محمد والتدين الرقمي

محمد تركي الربيعو

منذ سنوات، لفت أوليفييه روا في كتابه الشهير والمهم (الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة)، إلى أننا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أصبحنا أمام ما يسميه، السوق الدينية الجديدة. في هذه السوق المستجدة، لم يعد الدين يقتصر على منابره التقليدية، بل بات يظهر على منصات التواصل الاجتماعي ومن خلال وسائط الاتصال الحديثة، التي توفر نصوصاً ومواد دينية غزيرة، من فتاوى ونصوص ومواعظ، تتيح للمتدين، أو للمهتم بالدين الوصول إليها، والتفاعل معها بطرق لم تكن ممكنة في الماضي.
ومن خلال هذه الوسائط الجديدة، أصبح من الممكن لأي شخص أن يصدر فتوى أو يصنع خطاباً دينياً خاصاً به، كما ساهم في ظهور ظواهر أخرى، مثل الدعاة الجدد وانتشار أنماط مختلفة من التدين. وكان روا، أثناء كتابته، منشغلاً بظاهرة المتدينين الجدد، وهي الفئة التي تحولت بعض شرائحها ـ في الحالة الإسلامية تحديداً ـ إلى الحركات الجهادية. فمعظم القيادات الجهادية في العقود الأخيرة ظهرت من قلب هذا المناخ، كما أن كثيراً من الشباب الأوروبيين، الذين التحقوا بالجهاد في العراق وأماكن أخرى، تعرفوا إلى الإسلام خارج الأطر التقليدية، وغالباً عبر الوسائط الرقمية. لذلك، بدا روا يفكر في هذه النخبة الجديدة، وفي الكيفية التي تعيد من خلالها إنتاج الدين في عصر الشبكات.
لكن ما لم يلتفت إليه بالقدر الكافي هو التأثير العميق، الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي على الممارسات الدينية اليومية. فهذه الوسائط لم تؤثر فقط في الخطاب الديني أو إنتاج الفتاوى، بل انعكست أيضاً على موضوعات حياتية، مثل الزواج والمهر وغيرها من التفاصيل الاجتماعية المرتبطة بالدين. ومن هنا تبرز أهمية صدور كتاب «الدين في عصر الرقمنة»، الذي تُرجم عن كلمة للترجمة، ترجمة محمد فتحي خضر. فهذا الكتاب يقدم مجموعة من الدراسات التي تبحث في علاقة الدين بالعالم الرقمي، ويحاول تأسيس معرفة أوسع بمفهوم التدين الرقمي، أي الكيفية التي يُعاد من خلالها تشكيل الدين وممارسته داخل الفضاءات الرقمية. من بين الدراسات البارزة في الكتاب، الدراسة التي أعدّتها كلٌّ من رقية خان بالاشتراك مع أشلي يونغ آيتس. خان تشغل منصب رئيسة قسم الدراسات الإسلامية في جامعة كليرمونت للدراسات العليا في لوس أنجلس، وهي صاحبة كتاب «محمد في العصر الرقمي». في هذا الكتاب توقفت خان عند ملاحظة محورية، وهي التزامن التاريخي بين أحداث 11 سبتمبر، وظهور الوسائط الرقمية الحديثة، وهو ما لعب دوراً في تعميق ما يمكن تسميته بغيرية الإسلام، وفي تغذية الاستقطاب الخطابي بين تيارات رهاب الإسلام وتيارات الدفاع عن الإسلام، لكن ما كان يشغل بال بعض الباحثين المشاركين في هذا الكتاب هو أثر الوسائط الرقمية على مسارات العنف والتطرف، بينما ترك هذا التركيز أسئلة حول الإسلام اليومي، وكيفية ممارسة الدين في عالم السوشيال ميديا بعيداً عن الجهاد والأحداث السياسية الكبرى.

تهتم خان أساساً بدراسة تراث مجتمعات الشتات الإسلامي في الولايات المتحدة وجنوب شرق آسيا، وهو ما يجعل نتائجها مفيدة لتتبع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على طقوس الإسلام اليوم، وعلى النقاشات والجدالات اليومية المرتبطة بها. ومن الأمثلة التي توقفت عندها، مسألة الزواج والنكاح، حيث يقوم النكاح الشرعي على عقد بسيط بين العريس والعروس بحضور شاهدين، ويتطلب دفع النفقة، أو المهر الذي قد يكون مقدما أو مؤجلا.
وعلى الصعيد الوسائطي، لعب الإعلام الجديد دوراً مباشراً في الممارسة الإسلامية، إذ أتاح إمكانية عقد النكاح أحياناً دون حضور فعلي للعريس، وهو تطور مهم وفّر حلولاً للزيجات المتوقفة. كما لعبت منصات مثل إنستغرام دوراً كبيراً في طقوس الزفاف، إذ أصبح فضاءً رئيسياً لتبادل الصور والفيديوهات وعرض تفاصيل حفلات الزفاف، ما أضاف عناصر بصرية جديدة إلى التقاليد الإسلامية. ولذلك نلاحظ أن كثيراً من صور حفلات الزفاف التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس ابتعاداً عن التقاليد الدينية أو المحلية، أو مزجها مع أنماط الزفاف الغربية. كما تبرز النقاشات حول المهر: مقدار المهر المقبول، أسباب دفعه، وما إذا كان يجب التخفيف أو الحفاظ على التقليد، وهو ما يشير إلى إعادة تقييم النكاح والالتزامات المترتبة عليه، وتحوله من طقس ثابت إلى موضوع قابل للنقاش وإعادة التفسير في العالم الرقمي.
تقف خان أيضاً عند فكرة الصلاة في المسجد، خاصة صلاة الجمعة. فوفق ما يُلاحظ في عالم المسلمين في الولايات المتحدة، أن معظم المساجد، أو كثيراً منها اتجهت خلال السنوات الأخيرة إلى نقل خطب الجمعة والدروس عبر منصات مثل فيسبوك ويوتيوب، بحيث يمكن للمتابعين المشاركة عن بُعد. إضافة إلى ذلك، وفرت هذه المساجد خيارات الإنترنت الخاصة بجمع التبرعات بسرعة وأمان، بما يشمل التبرع لوجبات الإفطار وخدمات التعليم الإسلامي. ومن هذا المنطلق، ترى الباحثة أن كثيراً من أبناء هذه المجتمعات أصبحوا يرون أنه من الممكن البقاء في المنزل وعدم الذهاب فعلياً إلى المسجد، وهو ما يخلق نمطاً جديداً من العلاقة بالإسلام، يمكن وصفه بأنه علاقة افتراضية رقمية، تعتمد على الوسائط الرقمية بدل الحضور الفيزيائي المباشر. ربما نسجل هنا ملاحظة أن هذه الظاهرة لا تنطبق بالضرورة على واقع مدن مثل دمشق أو إسطنبول أو الشارقة. فصلاة الجمعة، رغم التطورات في الوسائط الرقمية، ما تزال تحظى بحضور كبير، بل إن بعض الجوامع تشهد اكتظاظاً ملحوظاً خلال صلاة الجمعة. ومن هنا نرى أن الافتراض القائل بأن الوسائط الرقمية قد تقلل من حضور الصلاة لم ينجح في التأثير كثيراً على المجتمعات المحلية بالضرورة.
على العكس، يبدو أن هذه الوسائط أثرت أكثر على المجتمعات المهاجرة، بينما وفرت فرصة للإسلام المحلي ليعبر عن نفسه بشكل أوسع، ولتوصيل رسائله إلى فئات، ربما كانت بعيدة عن المساجد. وفي هذا السياق، اتجه العديد من المساجد والمدارس الدينية إلى بث خطب الجمعة والدروس عبر الإنترنت، ما ساهم أحيانا في انتشار أفكار بعض رجال الدين المحليين، وبالتالي، نلاحظ أن الافتراضي في هذه الحالة يساهم في دعم الإسلام المحلي، من خلال إيصال محتواه إلى جمهور أوسع، وليس بالضرورة ليحل محل الممارسة التقليدية في المجتمعات الأصلية.
في كل الأحوال، يبدو أن النقاشات والخلافات على وسائل الإعلام الجديدة تكشف عن قوة هذه الوسائط في طرح خبرات وأفكار جديدة، ما يعزز فكرة أننا أمام تدين رقمي. هذا التدين الرقمي يحتاج إلى دراسات أوسع في المدينة العربية، وتتبع دقيق لتفاصيله اليومية، والتعامل بجدية مع النقاشات على منصات التواصل الاجتماعي، إذ يتضح أن تأثيرها أعمق بكثير مما نتصور. ولذلك ربما تبرز الحاجة إلى تأسيس ما يمكن تسميته بمشروع دراسة التدين الرقمي في العالم العربي، لضمان فهم أفضل لهذا التحول العميق في الممارسة الدينية والثقافة الإسلامية، وفي حياتنا عموما، ونأمل أن لا يبقى مجرد مشروع مؤجل، كما هو حال العديد من المشاريع البحثية والثقافية العربية.

٭ كاتب سوري

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب