
الغربة والهوية في مرايا الشعر: مقاربة لديوان «الخيمة في الغابة»

منذر اللالا
في زمن تترنح فيه الذات على أرض قلقة، وتتكسر فيه الجغرافيا تحت وطأة الحروب والشتات، ينهض الشعر كفعلٍ وجودي بامتياز، لا يكتفي بالرصد، بل يعيد بناء الوعي والمقاومة، في هذا السياق، تأتي نصوص «الخيمة في الغابة» للشاعر الفلسطيني باسل عبد العال المقيم في لبنان، والصادر حديثا عن دار الآن ناشرون وموزعون ـ الأردن، ليُشكل نصاً شعرياً متفرداً، يغوص في مأزق الواقع ويستنهض الروح من رماد اليأس، ليخلق مساحته الخاصة، بين نص الواقع ونص الخيال.
يمشي باسل عبد العال في ديوانه على أرض قلقة، ويغوص في مأزق الوجود بعمق، لكن من منظور التجربة الفلسطينية للشتات والحرب المتواصلة، ليعكس مرارة واقع «نكبتين وتجربتين وحربين»، حيث تتجلى الجغرافيا لا كمسطح، بل كجسدٍ ينزف: «جغرافيا.. دمع ودم/ جغرافيا.. دمع ودم/ هذا قليل» هذه الصورة الصادمة تُجسّد «الوجع الذي تشيأ»، حيث يصبح الوطن «الوطن القتيل» وشجر الصبار، رمز الصمود، شاهداً صامتاً على فظاعة الأحداث: «وأحداث الصبار في الوطن القتيل؟»، الشاعر هنا لا يُسلّم للنقص، بل يسعى لتصوير حقيقة هذا العالم بزيفه وواقعه المتوحش، محاولاً استنطاق الوجود بلغةٍ تعريّ زيف الشعارات، سؤال الشاعر «أين أنا في المكان؟» وندائه لذاته «أدق عليّ لأوقظني»، يعكس إحساساً عميقاً بالمسؤولية تجاه الوعي الذاتي والجماعي في زمن التيه، لعل في اليقظة بداية لتصويب «الخلل البنيوي».
يُجسّد الشاعر في «الخيمة في الغابة» هذا الهاجس من خلال التمسك بالهوية والمقاومة كقيمة عليا، المقاومة هنا تتجاوز المفهوم المادي المباشر لتُصبح فعلاً وجودياً ومعرفياً تتصدى للنسيان والتغييب. يُقدّم الشاعر ثنائية فريدة تُبرز إيمانه بقوة الكلمة الموازية لقوة الفعل: «كان يقاوم بالسرد سرا / وكان يقاوم بالسيف سرا»، هذه المقاومة، التي تتجلى في «تحرير سرد الرواية» من التشويه، تجعل الشاعر نفسه «العسكري الروائي، يسرد ثم يخطط ثم يقاوم»، القصيدة ليست مجرد تعبير جمالي، بل هي «بنت الحقيقة/ سرد الهوية في صورة الجد»، وتصبح فضاء للمقاومة والوجود، حيث يجد الشاعر ذاته ويستطيع «الكلام»، هذه الأمانة للقيم تتجلى في الوصية المتكررة في الديوان بـ»جعل الحلم أعلى» والرؤية «الضوء أوسع معنى»، وهي وصايا تُصبح «مهنته في الحياة»، وتحفر في الأجيال القادمة عميقاً.
ويُشكل «نص الخيال» في الديوان المساحة التي يلتقي فيها الواقع بأحلام المقاومة، لتبتكر صوراً شعرية فريدة وتؤسس لرمزية عميقة تضيء مساحات الأمل وسط العتمة، كما يتجلى في قول الشاعر: «سأرسم كونا مثل هذا سأرسم كونا على عجل/ ليس فيه الذي فيه/ لا يحتوي عالما عاريا مثل هذا/ ولا قمرا ناقصا مثل هذا»، هذه الصورة تُجسّد بوضوح قدرة الشاعر على بناء عوالم بديلة ومغايرة لواقع قاسٍ، ليصنع مساحة من المعنى، حيث تتجاوز الرؤية حدود المألوف لتلامس أفقاً أرحب، العنوان ذاته، «الخيمة في الغابة»، يُعدّ الرمز المركزي والأبرز في الديوان؛ فهو ليس مجرد مسكن مؤقت، بل هو رمزٌ عميق للوجود الفلسطيني في الشتات والترحال، للهشاشة، للمأوى المؤقت في بيئة قاسية وغير مألوفة، الغابة، بدورها، ترمز إلى المجهول، للوحشة، للفوضى، أو حتى لوطنٍ تحوّل إلى فضاء غير آمن، الشاعر يكسر الحدود بينهما بقوله: «بيتاً/ خيمة في غابة أو غابة في خيمة!» ليجسّد حالة التيه والاغتراب، حيث تختلط الهوية بالمكان، كما يُعالج الشاعر الجفاف والقسوة بصور حسية وذهنية غير مألوفة، مثل التوق إلى المطر في الصحراء: «فهل ينبت العشب في الرمل من شح الماء/ كنت رفعت يديّ لكي المس الماء من مطر»، هذا التوق يرمز إلى الأمل في الخلاص، أو التجدد بعد النكبات، وتتجلى رمزية «البرق» كبشارة ضوء وأمل يولد من رحم الشدة واليأس: «ثقوا بالسماء كي تولد رؤية البرق من أوج ما أنجبته الصحارى»، وحين «عادوا وكانوا هم البرق فوق الجبل»، مما يُشير إلى الأجيال الجديدة التي تحمل بذور الأمل والتغيير، وتتسم صور الشاعر بالابتكار وتجسيد المفاهيم المجردة، مثل «الرؤية أدق على الباب / أدق عليّ لأوقظني» التي تُضفي على الرؤية صفة الكائن الذي يدق باب الوعي، وتتجلى المفارقة المؤلمة في وصف «البلاد التي أدمنتنا عرايا ولم تعترف بالشهيد»، حيث يُصوّر الوطن بصورة سلبية تُدمي القلب، هذه الصور لا تصف الواقع فحسب، بل تُعمّق فهمنا لتجربة الألم والوعي.
إن «الخيمة في الغابة» نصٌ شعريٌّ ونصوص سردية بالغة الأهمية، ينجح في التقاط تعقيدات الوجود الفلسطيني في ظل المنفى والمقاومة، إنه كغيره من الأعمال الشعرية الكبرى في عصرنا الحديث المليء بالحروب والتهجير، ينطلق من «نص الواقع» في مأزقه، ليُعيد تأسيس «القيم» من خلال السرد والمقاومة، ويخلق «نص الخيال» الذي يُضيء دروب الأمل بصور مبتكرة، الشاعر هنا لا ينام هروباً، بل «يحفر فيك عميقاً» ليزرع الحلم، هو من أولئك الذين يُدركون، كما قال الشاعر في ختام أعماله: «من يرغب في الجنة/ عليه أن يصنعها / ليستحقها»، وديوان «الخيمة في الغابة» هو جزء من هذه الجنة المصنوعة بالكلمات، التي تظلّ خير شاهد على الروح التي لا تنكسر.
كاتب أردني