ثقافة وفنون

أليخاندرا بيثارنيك والانتحار المعلن في القصيدة

أليخاندرا بيثارنيك والانتحار المعلن في القصيدة

نسرين بلوط

في انغلاقٍ بنيوي للقصيدة، وذاكرة مفقودة للمعنى المراد، وتجاوزٍ محببٍ للتماسك التفعيلي لليقظة والحلم، يعلو صوت الكينونة في عالم أليخاندرا بيثارنيك في انفعالٍ مبطن، يضج بالندبات الصارخة للجروح، في معنى أحادي، ومجازياتٍ تطغى في كل حرفٍ ينطق ويحبك على مغزل الصمت الأنثوي البارز، والاعتراض المتألم على المصير الهش.
وكما قال نيتشه، إن المعنى هو الأيديولوجيا، يأتي فك أحجية النص ونسيج سرديته في قاموس أليخاندرا بمثابة موتٍ معلن، ينشب حربه بساديةٍ وتحكمٍ بارز، ويتغلغل في جسد النقد بمثابة طعنةٍ نجلاء، إذ يحار الناقد كيف يسير معها وفي أي تنسيقٍ أو تصورٍ لما يتغلغل في المدلول، والتساؤلات الأبستيمولوجية أي المعرفية.
وقد يلحظ بأنها تتحرك بإقصاء السياق الخارجي، والانصراف الى الرؤية الداخلية لذاتها، فتئن وتتوجع وتقفز فوق البصريات، ففي قصيدتها «أتوق لأن أجعل نفسي قربانا» تقول آليخاندرا: أن ننظر ببراءةٍ، قبل كل شيء/ كأن شيئا لم يحدث/ وهو أمرٌ صحيح/ لكن أنت، أود أن أنظر إليك حتى يهرب وجهك من خوفي، مثل طيرٍ هاربٍ من الحواف الحادة لليل/ مثل فتاةٍ مرسومة بطبشورة زهرية على جدارٍ قديم جدا/ تجرفها الأمطار فجأة/ مثلما تتورد زهرةٌ وتكشف عن قلبٍ ليس موجودا/ كل حركةٍ من جسدي وصوتي تتوق لأجعل من نفسي قربانا/ الباقة التي تتخلى عنها الريح على الشرفة/ ظللي ذكرى وجهك بقناع من ستكونينها/ وأخفي البنت التي كنتها ذات يوم».
هذا الهروب المتهور من النفس إلى القاع بخوائها المرعب، ينم عن ضعفٍ بعيدٍ عن الموضوعية، بحيث تطبق الدال على المدلول دون توغلٍ في البنية الشعرية الرمزية، وتتزاحم الإرهاصات التعبيرية من رحم التكيف المتعثر مع محيطها، لتخلق النقد المحايد، أي الذي يقرأ ما يراه وليس ما يبصره، يبتكر لغة ثانية تحلق فوق اللغة المكتوبة في النص، ليصير أكثر تمعنا في الهدف الظاهر أمامه، وأقل تشددا لما يرد في المفردات. ومن هنا نلاحظ في قصيدة آليخاندرا عدة نقاطٍ أهمها الاصطدام بالعناصر الروتينية التي تغلف قشرة الحدث الفعلي، بحيث تجفل وتسعى للتحويل الميلودرامي من حالة التساؤل إلى الحزن المدمي للقلب، ومن البراءة المفرطة إلى النهاية المفزعة. وكذلك تجنب الانخراط في التجزئة النسبية للمشاعر، حيث توزعها بطريقةٍ لا متساويةٍ بين الجسد والصوت.
في قصيدة «في الليل أصغي إلى نواح الماء الباكي» تتجلى صرخةٌ متشظيةٌ تطلقها آليخاندرا من أعماق العزلة، التي تغفو تحت قلمها، فتقول:» في الليل، أصغي إلى نواح الماء الباكي/ في الليل، أحيك ظلمتي الداخلية وأصنع نهاراتي التي تنوح باكية لأنها خلقت من دموع ليالي/ في الليل، أصغي لنداءٍ ما يبتغيني/في الليل، تتخلى أنت عني على مهل، كالماء النائح الذي يتساقط على مهلٍ وينكسر! في الليل، أخط رسائل من نور، رسائل تعبق برائحة الماء/ في الليل، ثمة من يطمئن لحالي، وثمة من أطمئن لحاله/ وما صوت الخطى الذي يملأ الفضاء المحيط بهذا الضوء الغاضب، إلا خليقة ما أعانيه أرقا! خطى إنسانٍ ما عاد يتثنى، ما عاد يكتب/ في الليل، أحدهم يتأنى هنيهة ثم يخط عابرا دائرة الضوء الموجع/ في الليل، أغرق في بحر عينيك وقد أصبحتا عيناي/في الليل، أبعث نفسي لزيارة تلك البقعة المحتلة في أراضي الصامتة. وحينئذٍ، في الليل، أرى ما يترنح أمام ناظري، شيئا رطبا، شيئا ابتدعه الصمت ليحاكي صوت نواحٍ بشري/ ما الفقدان إلا صفعةٌ رمادية، والظلمة تزداد كثافة».
يظهر هنا التفرع الآني للإيجاز، حيث يصبح الخطف الارتدادي للجموح العاطفي نفقا لمشاهد متتاليةٍ تجمع الاضداد، مثل الليل والنور، والغرق والبعث، والظلمة والنهارات، وتميل للسرد المترجم من خلال التخبط المرودي في عالمٍ ضبابي متلعثم، تلمع نجومه في عينيها فيبهرها الضوء وتغرق في عشق الليل، رغم اللعبة الهيرقليطية للقصيدة التي تكتب بأسلوبٍ غامضٍ يتأرجح بين الحزن الشديد المبرم، وإطراء معالم الكائنات من حولها، وتحسسها لأدق حركةٍ تنتج عنها، وتتبعها لأي همسةٍ تدرأ عنها الصدمة الدراماتيكية، التي عانت منها وجلبت لها مغبة الموت حتى في حالات يقظتها.
كذلك يبرز الاحتكار الوجداني للمفردات القوية الدالة على العمق الفلسفي للكلمات ومزج الميتافيزيقيا مع الايونية الكونية، حيث الأسماء لا تقلل من شأن المسمى به، والطرح الدائم لتفسير العالم وعلاقته مع العدم أو الموت، قائم ابدا وهكذا يصبح الحزن رفيقا انتقائيا لها، يفرض نفسه في مساحات القصيدة وفي وجدانها، الذي يضج بالتشنجات، فتغمس قدمها في نهر الانطواء وتبهر اللغة بابتكارات النواح الشديد، وتتلوى في انكسارٍ محزنٍ لا يليق إلا بحوريات اليأس، اللواتي سخرن ظلالهن لأساطير الوهم. فهي تتوق لخطى أي خطى تسير في الدرب، تحن وتهب القليل من العطف، وتنصت لعمق فقدانها الذي لا ينتهي، وهي التي تكتب بالدمع وهي تقرأ تخلي الحب عنها، ولا تعرف كيف تدفع عنها هذا الكرب القاتل.
في قصيدة «في الطرف الآخر» تقول: «كساعةٍ رمليةٍ تسقط الموسيقى على الموسيقى/ حزينةٌ أنا في ليل أنياب الذئاب/ تسقط الموسيقى على الموسيقى كسقوط صوتي على أصواتي/ كماء على حجر/ على تلك التي تعود باحثة عما كانت تبحث في القديم/ يرخي الليل سدوله كماءٍ على حجرٍ/ كهواءٍ على طائرٍ/ كجسدين يهبطان على بعضهما في الحب/ غنائية الحجر الباكي/ ضاحكا يموت الموت ولكن الحياة/ باكية تموت ولكن الموت ولكن الحياة/ ولكن العدم العدم العدم».
تبرز روعة الإيقاع في هذه القصيدة كالالتحام الشامل مع المطلق، حيث تعلق الدلالات المرجعية للكلمات بين قوسين عريضين، فالموسيقى تسقط على الموسيقى، هنا تجمع بين عزف الوقت وعزف الزمن، هذا الوقت الذي يغرب الزمن ويعريه ويطحنه بين براثن القدرية، فتدخل بنا إلى اللعبة اللغوية في معنى مدفونٍ بين تلاقي الكلمات وتلاقحها، وكذلك تعبيرها في سقوط صوتي على أصواتي، إذ أن الصوت الواحد لا يكفي كي يكتمل المعنى في رأيها، فهناك أصواتٌ تتلقفها وتتنازعها وتتقاسمها، وهي تجعل من الحجر طفلا باكيا يتحرر من صلابته، هذه المشاهد اللامتجانسة هي في الحقيقة لوحةٌ تجمع بين فنين، فن الطبيعة وفن السريالية الشاحبة، الذي يتكئ على الفلسفة الهوسرلية، أو العلم الذي يدرس خبرة الوعي، هي ممتلئةٌ بهذه الموسيقى، بهذا النغم، ولكنها تذهب به إلى تشبيهاتٍ واقعية وكذلك مجازية، لتجمع بين الفطنة والفتنة، والوعي والخيال. وهذا التناقض الواضح، جعل من الموت شبحا مقربا إليها، وهكذا كان انتحارها في الحياة، كما في القصيدة، أمرا مسلما به حسب قناعتها التي تتضح من قصائدها.
كان غياب أليخاندرا بيثارنيك في القصيدة واضحا في كل وجهٍ من وجوهها، فالدينامية الواضحة في التشويش على وعيها، تغيب وتظهر، ولكن إبداعها رغم تعرضه للكثير من المآسي، التي تجشمت عناءها ظل صلبا وحارا، على الرغم من اهتزاز بنية النص في بعض الأحيان، لكن حضور المعنى الأساسي طغى في تركيبة مفرداتها، وهو المعنى نفسه الذي صور لها الرحيل حاجة لا تقاوم، حتى أنهت حياتها وهي في أوج عطائها الفكري الثاقب، إلا أن مقدمات هذا الرحيل كانت جلية وواضحة من خلال قلم الشاعرة الحقيقي، الذي لم يتعلم الكذب وغاص في تفاصيل مسارها حتى اللحظات الأخيرة.

كاتبة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب