ثقافة وفنون

رواية: بركة الرضا

رواية: بركة الرضا

بقلم: المحامي علي أبو حبلة

الفصل الأول: العودة الثقيلة

كانت القرية ساكنة تحت شمس المغيب، والطرقات الترابية تحمل رائحة الحطب والدخان، فيما الأطفال يلعبون عند أطراف الحقول. في تلك الأجواء، عاد الابن الأكبر بعد سنوات من الغربة، ترافقه زوجته وأطفاله الصغار.

دخل الساحة بلهفة، يحمل حقيبته، وعينيه تفيض شوقًا، لكن المفاجأة كانت أشد مما تخيل. والده، بوجه قاسٍ متجهم، قال بصوت حاسم:

– “لن تسكن في بيتي، عد من حيث جئت أو استأجر لك مكانًا آخر.”

ساد صمت ثقيل. نظرت الأم بعينين دامعتين، واندفع الإخوة الثلاثة يحاولون التخفيف من وقع الكلمة. قال أحدهم:

– “أبتاه، إنه أخونا، عاد ليراك ويعيش قربك.”

لكن الأب لوّح بيده رافضًا.

لم يرد الابن الأكبر بكلمة، أطرق رأسه، ابتسم ابتسامة كسيرة، وكأنه يقول في صمته: “رضاك أثمن من كل بيت.”

الفصل الثاني: بيت على هامش الحلم

بإلحاح الأم وتوسط الإخوة، وافق الأب على حل وسط:

– “ابنِ لك بيتًا صغيرًا بجوار منزلي، لكن تذكر… الأرض أرضي.”

انحنى الابن احترامًا وقال:

– “أمرك يا أبي، يكفيني أن أكون قريبًا منكم.”

وبهمة صابرة، بدأ يجمع الحجارة، ويرصف الجدران، وزوجته تساعده بما استطاعت. الأطفال كانوا يتسابقون بين التراب يحملون أدوات صغيرة، وكأنهم يشاركون أباهم بناء الأمل.

مرت أيام قليلة، وإذا بالبيت ينهض شامخًا على حافة ساحة العائلة. وفي صباح اليوم الذي حمل فيه الأثاث البسيط، التقى والده عند الإسطبل.

قال الابن بابتسامة:

– “أبتاه، انتهى البيت، وجئت أطلب إذنك أن أسكن فيه مع أسرتي.”

رفع الأب حاجبيه وقال بصرامة:

– “لا، لا يمكنك السكن، هذا البيت في أرضي، وهو ملكي.”

تجمدت الكلمات في حلق الابن، لكنه لم يغضب. انحنى فجأة، وألقى بجسده عند قدمي والده الملوثتين بمخلفات الماشية. أمسكهما بكلتا يديه وقبلهما، والدموع تغسل التراب. قال بصوت يرتجف:

– “رضاك يا أبي حياتي كلها، تريدني أن أرحل؟ سأرحل. فقط لا تحرمني دعاءك أنت وأمي.”

تأثرت الأم، وانهمرت دموعها وهي تهمس:

– “رحمك الله يا بني، قلبك أوسع من الدنيا.”

الفصل الثالث: طريق العاصمة

رحل الابن مع أسرته قبل أن يسكن بيته الجديد. استأجر بيتًا صغيرًا في العاصمة، أشبه بظل بيت أكثر من كونه مسكنًا. لكن قلبه المليء بالرضا حوّله إلى جنة.

فتح دكانًا متواضعًا، يبيع فيه ما تيسر. ومع الوقت، تباركت تجارته، كبرت الأرباح، توسع المحل، حتى أصبح من كبار التجار في السوق.

زوجته كانت سندًا وفيًا، وأطفاله كبروا والتحقوا بأفضل المدارس. لكنه، وسط كل ذلك النجاح، لم ينس قريته. كان يعود كل أسبوع، محملًا بما يحتاجه والداه، يطرق بابهما بابتسامة صافية.

– “أبتاه، كيف حالك اليوم؟”

– “الحمد لله.”

– “أمي، جئت بما طلبتِ، وزدت عليه.”

كانت يداه دائمًا مشغولتين بالعطاء، وقلبه ممتلئًا بدعاء لا ينقطع.

الفصل الرابع: وحدة القرية

مع مرور الأعوام، تزوج الإخوة الثلاثة، وانشغل كل منهم بعمله بعيدًا عن القرية. لم يبق مع الوالدين إلا الوحدة والجدران القديمة.

تألم الابن الأكبر لذلك، واقترب من أبيه قائلاً:

– “أبتاه، تعال معي إلى المدينة، لا تظل وحيدًا هنا.”

تردّد الأب، وقال بقلق:

– “أنا غريب هناك، الأرض هنا أعرفها، والناس هنا يعرفونني.”

لكن الأم وضعت يدها على كتفه قائلة:

– “دعنا نذهب معه، يا رجل، لقد حمل عنا الكثير.”

بإصرار الابن ودموع الأم، وافق الأب أخيرًا.

الفصل الخامس: عقد من البركة

في بيت العاصمة عاش الوالدان مع ابنهما الأكبر أكثر من عشر سنوات. كانت أيامهم مزيجًا من العافية والمرض، من السهر والراحة. لم يدخر الابن جهدًا في رعايتهما، وزوجته كانت كالأم الحنون لهما.

في إحدى الليالي، رحل الأب بهدوء بين يدي ابنه. وبعد عامين، تبعته الأم تاركة خلفها دعاءً خالدًا:

– “بارك الله فيك يا بني، كنت لنا سندًا حتى آخر لحظة.”

بقي بيت القرية مهجورًا، ومعه البيت الصغير الذي لم يسكنه الابن يومًا.

الفصل السادس: سر الشباب

ومع مرور السنين، بقي الابن الأكبر حاضرًا بقلبه ووجهه المشرق. كان الناس حين يلتقونه يتعجبون:

– “أأنت حقًا الأخ الأكبر؟ تبدو أصغرنا جميعًا.”

كان السر واضحًا لكل من يعرف القصة: إنها بركة برّ الوالدين.

الخاتمة

هذه الرواية ليست حكاية عابرة من قرية نائية، بل مرآة تعكس حقيقة إنسانية خالدة:

أن بر الوالدين ليس مجرد وصية، بل بركة تحفظ العمر والرزق والوجه.

فمن أراد السعادة في دنياه، والنجاة في آخرته، فليبر والديه قبل أن يرحلا، فلن ينفع الندم بعد الفقد.

قال تعالى: ﴿وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ [الإسراء: 23].

إنها وصية من فوق سبع سماوات، جاءت مقترنة بتوحيد الله، لتدل على عظمة حق الوالدين وعلو منزلتهما.

وقال تعالى: ﴿وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا﴾ [الإسراء: 24].

فمن خفض جناح الرحمة لوالديه في حياتهما، رفعه الله مقامًا في الدنيا والآخرة، وجعل البركة تلازمه في عمره ورزقه.

الحكمة الختامية:

برّ الوالدين ليس عبئًا ولا تكليفًا، بل هو مفتاح رضا الله، وجسر النجاة إلى جنته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب