رئيسيالافتتاحيه

في أعمالٍ وأسرار… وما خفي أعظم

في أعمالٍ وأسرار… وما خفي أعظم
بقلم: بقلم رئيس التحرير
في عالمٍ تحكمه المصالح لا المبادئ، وتُدار فيه الأزمات بأدوات الظل لا بالخطابات العلنية، يصبح فهم المشهد السياسي مجرّد قراءةٍ لسطحٍ متحرّك يخفي في عمقه أعمالاً وأسراراً أعقد بكثير مما يُقال أو يُعرض. فالمشهد الراهن في الشرق الأوسط ليس إلا نتيجة مباشرة لتفاعلات خفية تُدار بين القوى الكبرى والإقليمية، حيث لا أحد يلعب وحيدًا، ولا حدث يُصنع صدفة.
ما يجري اليوم في فلسطين، من تدميرٍ ممنهج لغزة واستنزافٍ متواصل في الضفة، ليس مجرد تصعيد عسكري أو ردود فعل متبادلة، بل مرحلة متقدّمة من مشروعٍ استراتيجي لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة. الولايات المتحدة لا تتصرف كوسيطٍ أو كراعٍ للسلام، بل كقوةٍ مهيمنة تدير التوازنات بين إسرائيل وإيران والعرب بما يضمن استمرار التفوق الإسرائيلي وإدامة حالة “اللاحرب واللاسلم” التي تخدم مصالحها.
أما إسرائيل، فهي تدرك أنّ بقاءها في صدارة الإقليم يستلزم إبقاء جيرانها في حالة ضعفٍ دائم. ومن هنا، تتعامل مع الحرب في غزة كفرصة لإعادة فرض معادلات جديدة على الفلسطينيين والعرب، عبر القوة المفرطة من جهة، والتطبيع الاقتصادي والأمني من جهة أخرى. في العلن، تُقدّم نفسها كضحية؛ وفي السر، تُبرم التفاهمات وتُعيد تموضعها لتوسيع رقعة نفوذها، وتضمن دورها في كل تسويةٍ مستقبلية ترسمها واشنطن.
إيران من جهتها تُتقن فنّ المناورة تحت سقف الاشتباك المحدود، فتبقي على خطاب المقاومة مرتفعًا، لكنها لا تتجاوز الخطوط الحمراء التي قد تُشعل حربًا شاملة. وتستفيد من استمرار الصراع لتثبيت حضورها الإقليمي وتعزيز أوراقها في المفاوضات النووية والاقتصادية. فالتوتر القائم، مهما بدا خطيرًا، لا يخرج عن إطار إدارة التوازنات لا كسرها، والكل يعرف أن استمرار اللعبة يخدم الجميع ما عدا الفلسطيني الذي يدفع الثمن.
الإعلام الغربي والعربي على حدٍ سواء يُسهم في تضليل الرأي العام، فيعرض المشهد كصراعٍ بين طرفين، متجاهلًا عمق المؤامرة على الوعي العربي. فالحقيقة تُدار اليوم في غرف مغلقة بين أجهزة الأمن ومراكز القرار المالي والاستخباري، حيث تُحدَّد السياسات وتُرسم خرائط النفوذ الجديدة. ومن لا يملك موطئ قدم في تلك الدوائر يُفرض عليه دور المتلقي للنتائج لا المشارك في صنعها.
لقد تحوّل الصراع في منطقتنا من مواجهةٍ عسكرية إلى حرب عقول واستراتيجيات، تُخاض بأدوات التكنولوجيا والمعلومات والاقتصاد، لا بالصواريخ وحدها. والعرب، في معظمهم، يقفون على هامش هذه المعادلة، بلا مشروعٍ جامع، وبلا رؤيةٍ موحدة، بينما الآخرون يخططون للغد وفق خرائط تمتدّ لعقود قادمة.
إنّ ما يجري في الخفاء اليوم أخطر بكثير من صور الدمار التي تُبث على الشاشات. فهناك ترتيباتٌ تُطبخ على نارٍ هادئة تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية، وبملفّات الطاقة، والممرات البحرية، وإعادة رسم التحالفات الإقليمية من جديد. وهذه الملفات جميعها تُدار بعيدًا عن الشعوب وبرلماناتها، في كواليسٍ يتقاطع فيها الأمن بالاقتصاد، والسياسة بالعقيدة، والمصالح بالهيمنة.
الخاتمة
في نهاية المطاف، نحن أمام تحوّلٍ استراتيجي صامت يعيد صياغة هوية المنطقة، ويعيد تعريف الصراع لا حله. فكل ما يُعلن ليس سوى غطاءٍ سياسي لحروبٍ خفية، وكل ما يُقال لا يمثل إلا الوجه العلني لصفقاتٍ أكبر تُدار في الغرف المغلقة وفي ظلمات الليل .
وما خفي أعظم…
لأن ما يُخطَّط له في الغرف المغلقة اليوم قد لا يُكشف إلا بعد أن تُرسم خرائط جديدة، وتُعاد كتابة التاريخ من جديد.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تبقى شعوب المنطقة متفرّجة على مستقبلها يُصاغ في غيابها؟ أم آن الأوان لتتحرك قبل أن تُصبح جزءًا من هامش التاريخ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب