مرثية لوطنٍ يعيد إنتخاب جلّاديه

مرثية لوطنٍ يعيد إنتخاب جلّاديه
محمود الجاف
أيّها الوطنُ الجميل كجريمةٍ قديمة،
أيّها الجسدُ المذبوح على خرائط الطغاة،
كم مرّةً ستُبعثُ لتُصلب من جديد؟
العبيدُ فيك عشقوا سلاسلهم،
زيّنوها بالورود، وحملوها إلى صناديق الاقتراع كأنّها مفاتيحُ الفردوس.
صفّقوا للجلّاد حين رفعَ العصا،
وهتفوا بإسمه حين سرقَ الخُبزَ من موائدهم،
ثم عادوا إلى بيوتهم يلعنون الظلام،
وقد نسي كلٌّ منهم أنّه هو من أغلقَ النافذة .
في كلّ تأريخٍ مأساةٌ تتكرّر حتى تصير نشيدًا وطنيًا.
سقوطُ ميليتوس لم يكن على يد الفرس، بل على يد خوفها.
وبغدادُ لم تسقط يوم دُكّت أسوارُها،
بل يومَ صدّق الناس أنّ ظلّ الله
هو ظلُّ لصٍّ يختبئ في قصرٍ ذهبي.
المدنُ لا تُحتلّ من الخارج،
بل تُغتصب من الداخل حين تخون نفسها.
ها هي الوجوهُ القديمةُ تعود من شقوق الذاكرة؛ نفس الأصوات التي وعدت بالفجر فأنجبت ليلًا بلا نجوم،
نفس الأصابع التي لطّخت الورقَ بالحبر
فكتبت شهادةَ موتٍ جديدةً للوطن.
الشعبُ العظيمُ في مأساته،
يرى اللصَّ يثرى فيحسده على ذكائه،
ويرى الشريفَ يُسجن فيتّهمه بالغباء.
صار الذلُّ فنًّا،
والسكوتُ صلاةً،
والخيانةُ مذهبًا رسميًا في الأخلاق.
قال نيتشه :
( من يحيا طويلاً في القاع، يبدأ في عشق الظلام )
وأنا أقول :
من يحيا طويلاً في بلادي،
يتعلّم كيف يضحك في جنازته.
لكن حتى في القاع، ثمة شرارةٌ صغيرةٌ تتغذّى من الرماد. أولئك الذين ما زالوا يكتبون بأصابعهم المكسورة،
الذين يصرخون في وجه الخراب،
هؤلاء هم آخرُ رسلِ الوعي،
آخرُ خيطٍ بين الله والإنسان .
مباركٌ لكم أيّها الساجدونَ للجلّاد،
فقد فاز مرشّحكم : الذلُّ المطلق .
ومباركٌ لكم هذا البلد الذي تحبّونه
كما يحبّ السجينُ زنزانتَه.
اشربوا نخبَ خيبتكم،
وارقصوا على أنينِ أرضِكم،
فقد صارت المأساةُ فنًّا،
والعارُ عيدًا وطنيًا .
لكن لا تفرحوا كثيرًا.
ففي مكانٍ ما،
طفلٌ لم يولد بعدُ
يبلُغ من صمتنا حدَّ الصراخ.
يذوب رمادَ الخيبة
ويصنع منه مطرقةَ ضوء،
وسيطرقُ بها جدارَ التأريخ.
حينها سيتذكّر الجميع أنَّ العراق،
وإن سُرق ألف مرّة،
يبقى اللصُّ الحقيقي هو الموت
لأن الحياةَ فيه لا تموت .




