ثقافة وفنون

الاصطفاف الجيلي: الزمن أم النص؟

الاصطفاف الجيلي: الزمن أم النص؟

حاتم الصكَر

لقد أصبح مصطلح الجيل ذو البعد الزمني في أصله الاشتقاقي، محلاً للخلاف المتجدد في الخطاب النقدي. ويتجسم أكثر في الثقافة العربية بصدد الشعر، ويكاد يقتصر عليه، مع وجوده في السرد العربي عبر مراحل تطوره. لكن الجيل تموضع شعرياً في مركز الافتراق الأسلوبي، وصار يحيل إلى اصطفاف جيلي يتسم بالتعصب وإلغاء السابق، أو تسفيه شعر اللاحق.
ويبدو أن المسألة تتصل كما تورد معاجم المصطلحات الغربية بتقدير الزمن التاريخي أولاً. وهو ما وقر في الذاكرة النقدية المعاصرة المنحازة للتقسيم العمري للشعراء، وليس احتكاماً لأساليبهم في نصوصهم أو اتجاهات التحديث أو التقليد فيها.
يتأرجح مفهوم «الجيل» عادة بين الانتماء الزمني، والخضوع لمؤثرات مشتركة في فترة ما، قد تمتد لما بعد المدة الزمنية. وهي تتضح في التشكيل بشكل أكبر من الآداب. فالاتجاهات الفنية في الرسم تكون في العادة عابرة للأزمنة. فنجد الانطباعية مثلاً حاضرة اليوم بشكل أو بآخر، رغم أنها ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكن تأثيرات مونيه ومانيه وسيزان لا تزال بارزة في الرسم المعاصر.
ويبدو واضحاً ضيق الشعراء بالتجييل الذي يضعهم في الخطاب النقدي ضمن عقد عمري واحد، لا يتسع لمشروعاتهم، ولا يستوعب نمو وعيهم بالكتابة الشعرية، ويتعارض تلقائياً مع طموحهم للتفرد ورفض التجويق، والانتماء الجيلي الذي يحيل لأبوة تقترب في تفسيراتهم من الوصاية. كما تضعهم منعزلين عن حركة الحداثة الشعرية التي تتنازع الأجيال ريادتها أو تمثيلها في الأقل. بل أسند بعض الرافضين للتجييل وإرث أسلافهم، وصفَ (التهميش) تعبيراً عن كياناتهم الشعرية ونصوصهم. لكن ذلك الشعور كان مصحوباً بنسبة التميز والتعبير الأمثل عن النوع الشعري لأنفسهم، كقصيدة النثر وبالأحرى تمثيلهم لها تحديداً رغم معرفتهم بتجارب الأجيال السابقة عليهم. وكان الأجدر بهم رصد ما تابعوه وطوروه بدل إنكار منجز سابقيهم في رد فعل بالغ التطرف على ما يحسبونه أبوة ووصاية وتهميشاَ.
تلك المبررات لا أجدها كافية للانزعاج من (أو التعالي على) فكرة التجييل التي يذهب بعض النقاد والباحثين والقراء أيضاً، إلى تبنيها تسهيلاً للقراءة والتصنيف الفني، أو دراسة المشتركات الجيلية التي لا تخفى مظاهرها في النصوص.
وقد كانت المعاجم العربية الأولى توسّع مفهوم الجيل، وتقترح أن يكون ثلث قرن، امتداداً من تفسير لغوي يجعل الجيل وصفا لأمة من الناس، أو جماعة تتشارك في ملمح ما. ولهذا ظهرت طبقات الشعراء في النقد القديم، وتصنيف الشعراء محدثين مولدين وقدامى، والنصوص ذاتها بين جدة وقدامة.
لذا أرى أن انشقاق الشعراء لدى القدامى متصل بالتصنيف الفني: تقليدي عريق، وجديد مولّد. أو هو صراع المحدثين والقدامى. وليس للسن هنا أي دور. إنما بصدد التقاليد الفنية التي عافها المحدثون وطالبوا بتغييرها؛ كرفض المتنبي للمطالع الشعرية التي ارتهنت تقليدياً بالغزل. وقد لخص رأيه في بيت مميز يمكن أن يعد نقداً تضمن الميتاشعري، وحديث الشعر عن نفسه أو هويته الفنية وكتابته، إذ قال:

إذا كان شعر فالنسيب المقدمُ/
أكلُّ فصيح قال شعراً متيمُ؟

وقد كان «لسان العرب» مصيباً بإيجازه لمقترح آخر للجيل من الناس، هو (أنهم أهل زمان واحد). ففي لفظة (زمان) توسيع مناسب يحل مشكلة الاعتراض القائم حتى اليوم، بصدد استحالة اجتماع شعراء معينين عاصروا الفترة ذاتها في عقد واحد أو أكثر. لكن النصوص تخذل ذلك الاعتراض بشكل تبينه القراءات النصية المعنية بالمشترك الفني والجمالي، والأخذ من المراجع الغربية، وشيء من الهم الموضوعي الذي يطغى أحياناً في حالات الحروب المدوية الكبرى أو الأحداث والوقائع الجسيمة مصيرياً وإنسانياً ووطنيا. وقد تتبلور فكرة المجايلة أو الاصطفاف الجيلي – كما أرجحه وصفاً محايثاً لفكرة الأجيال – عبر التجمع تحت لافتة واحدة تبرز ظرفياً وتستبدل فكرة الجيل وتنوب عنه وصفاً.
ولدينا عربياً أمثلة كثيرة، منها في فلسطين بعد الاحتلال، وظهور شعراء المقاومة الذين التموا حول فكرة مقاومة احتلال وطنهم وتجسيدها في نصوصهم، فلم نعد نعبأ بأعمار توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وسواهم، بل ينوب عن ذلك اصطفافهم الجيلي المتزامن مع وعيهم برفض الاحتلال، وتبصير شعبهم بما ينطوي عليه ذلك من مصادرة لحريتهم وهويتهم ووجودهم.
كما ظهر في العراق جيل الحرب من الشعراء الذين تقاسمت أعمارهم المتفاوتة أهوال الحروب المتعاقبة، وتداعياتها الإنسانية المؤلمة التي تركت في الذاكرة الشعرية ما لا يمكن محوه بتقادم الزمن، كون كثير من الشعراء وجدوا أنفسهم منتزعين من حياتهم المدنية ومعايشتهم الشعرية والثقافية وأحلامهم ودراساتهم، ومرميين خلف السواتر الترابية والخطوط الأمامية في حرب طاحنة أكلت أعمارهم وما خططوا لحياتهم. فكانوا يتحلقون حول مفردات الحرب وقاموسها الدموي رافضين، ترميزاً وتقنعاً ومناورة للغة والأمثولات والمواقف. وهو ما أتاح تمثيلهم بهيئاتهم تلك.
يرى ريموند وليامز في قاموسه «الكلمات المفاتيح» أن التطور المهم قد حصل في الدراسات التاريخية والاجتماعية التي استخدمت (الجيل) استخداماً أعمق من المعنى البيولوجي. وشملت الكلمة بمفهومها المحدد والمؤثر لنوع مميز من الناس أو المواقف.
وسوف ينتظر الغربيون حتى منتصف القرن التاسع عشر ليظهر استخدام سانت بيف لمصطلح (الجيل الرومانسي). مع ملاحظة أن الجيل يعني في المعاجم ثلث قرن أو ثلاثين سنة. وهو توسيع لم تأخذه الدراسات النقدية ونقاشات المتفقين والمعترضين العرب على التجييل.
في كتاب نقدي مبكر لي هو «مواجهات الصوت القادم – دراسات في شعر السبعينيات»، 1986، استخدمت  التجييل وتفريعاته الممكنة لأسباب تكتيكية تتعلق بتسهيل مهمة التحليل النصي، والبحث عن المشتركات الموضوعية والرؤيوية والأسلوبية، ولتأكيد وجود متشابهات ومؤثرات نصية.
ولم يلق ذلك هوى في نفوس أغلب من وصفتهم بالمتجايلين وحاملي همٍّ شعري، يحتوي قواسم مشتركة مع خصوصية أدائية وتباين في المرجعيات والقدرات الفنية بالضرورة. كما تعرضت لتلك السمات التي ميزت اصطفافهم الجيلي، كالاعتراض على تكريس أبوة الستينيين وسطوة الشعراء الرواد وتجاربهم الشعرية. وكذلك بدايات الهفو للاقتراب من قصيدة النثر بشيء من التردد لدى البعض وخوض المغامرة لدى آخرين. وكانت نصوصهم في الحقيقة تجسد اصطفافهم الجيلي شعرياً وليس الجيل العمري.
وقد تميزت الأجيال بمؤشر يلتصق بهم كجماعة غير معلنة، فكان مفهوم الريادة ذا علاقة بالتجييل. فأغلب الرواد من عقد شعري متقارب لحد ما، أتاح مثلاً الاحتفاء بمئويتهم الولادية والذهاب لأعمارهم كما مدونة في سجلاتهم المدنية. لكن ما يشفع لذلك هو اقتسامهم الذهاب بجرأة إلى القصيدة الحرة، منهجاً لهم.
وكذلك جماعة شعر في بيروت التي لم يذكر أحد ما بين أعضائها وروادها من تفاوت عمري، لأنهم اجتمعوا حول مشروع تحديثي تكفلت لقاءاتهم وأدبياتهم ونصوصهم بالتعبير عنه. وخلص من بعد إلى اقتران اسمهم ومجلتهم بمشروع قصيدة النثر في لبنان والبلاد العربية.
والحل في المسألة الجيلية أن تكون الريادة فنية لا بالأسبقية العمرية أو زمن النشر. وهذا ما ارتبط بالجماعات القليلة في الثقافة العربية، كجماعة الديوان في مصر التي اقترن اسمها بالمدرسة، وكذلك جماعة أبولو. والجماعات الطليعية بعد ذلك مثل إضاءة 77 والثقافة الجديدة وسواها. وجماعة كركوك في ستينيات العراق الشعرية والسردية. والجماعات الجيلية في المغرب العربي مثلاً.
والطريف في المسألة الجيلية وجود مفارقات صارخة يرصدها الباحثون عادة، منها بروز مصطلحات تتداعى من فكرة الجيل رغم التظاهر والمواقف الحادة برفضها. فثمة حديث عن فجوات جيلية لم تردم. وشعراء عابرون للأجيال كونهم لا يخضعون للفهرسة العمرية. وبروز الانقسام بين كهولة وشباب لا يمتان للشعر بصلة، بل بالمقايسة العمرية، وإسباغ صورة نمطية على وصف الشعراء بالشباب، واستنكافهم الواضح من ذلك، بحسب ما تبين من الاستبيانات الدقيقة التي أجراها الدكتور علي ناصر كنانة. وهو شاعر درس الأبوية الثقافية من خلال ما أسماه أسطورة الشعراء الشباب. وكذلك يجري الانقسام أحياناً بين موتى وأحياء، ومشاهير ومهمشين.
ويشيع مصطلح الاستبداد الجيلي توسعياً لحديث الشاعر شاكر لعيبي عن استبداد شعري هو وجه لاستبداد اجتماعي وهيمنة لسلطة الواحد الممتلك للمعرفة النهائية والحكمة، كما يقول في دراسته «الشاعر العربي دكتاتوراً – طبائع الاستبداد الشعري». وثمة استبداد جيلي مقابل، هو رد فعل من الشعراء المعاصرين ضد سابقيهم.
وهذا رغم ظهور مصطلح التعايش الجيلي اقتراضاً من التعايش السلمي أو الطبقي والاجتماعي. لكن التعايش هنا يتصل بالشعر تداولياً لا بالشعراء؛ فهو يفحص الاتجاه الفني والمناخ السائد ذلك العقد، وما يستجد في فضائه من أساليب ورؤى؛ فيغدو الجيل مؤشرا لتحول النص ذاته وليس تجييلا للشاعر، وهنا نجد القطيعة بين رؤيتين، لا بين جيلين، أو بين رواد وشباب.
وهذا ما عرضته في دراسة لخصت فيها الموقف الجيلي، بأنه بحث عن أجيال الشعر لا الشعراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب