بضدها تتميز الثورات وبالبرنو يصنع التاريخ ويتجدد
أو كما جسدتها ثورة 17 تموز و الفلاح الحاج عبيد منكاش
المهندس: عادل خلف الله
في معارك التحرير المصيرية ، لا يتحقق الصمود والانتصار بتفوق السلاح وحده ،كما لا يقاس الحكم النهائي عليه ،وإنما بعدالة القضية و إرادة من يستخدم السلاح غض الطرف عنه نوعه. وقد أدى تفوق السلاح ،عبر التاريخ ، إلى كسب جولات ولكنه لم يحسم المعركة ،بمعيارها القيمي ،الحق والعدالة .
تشرح معنى هذه الجملة وبمشهدية معاصرة، فائقة التعبير ،الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام لفلاح عراقي أسقط ببندقية كلاسيكية ،تقليدية ،أحدث الطائرات الأمريكية المقاتلة،من طراز أباتشي ،أثناء الغزو الأمريكي للعراق 2003 إعلانا عن مقاومة الاحتلال.
مسجلا بذلك اسمه، الحاج علي عبيد مكناش الفتلاوي، على ناصية شرفة تاريخ المقاومة بشجاعة وبطولة . حينما أقدمت أمريكا ، بتصميم صراعها مع المشروع القومي النهضوي التحرري الذي يمثله العراق ، هذه المرة، بمنطق الغزو والاحتلال وبقيادتها ،بعد أن تهاوت على أسوار إرادته الفولاذية ومضيه بتصميم ، المعارك التي أدارتها بالانابة عنها أدواتها المحلية والإقليمية ، الواحدة تلو الأخرى . بدءا بفرض الحصار الاقتصادي بعد قرار تأميم النفط في مايو حزيران 1971 ،ثم محاولة قلب نظام الحكم عبر سورريا ، ثم بتحريك أحلام ملالي قم وطهران بعدوان1980 ، أو بإحداث انهيار اقتصادي عقب انتصار القادسية ،وإطفاء روح النصر ،بغمر أسواق النفط وإحداث انهيار تاريخي لأسعاره بعد 8/8/1988 ،أو بالعودة مجددا لفرض الحصار الاقتصادي والجوي،1991 ،الأقسى والأطول من نوعه ،الذي فرضته(الأمم المتحدة) على أحد أعضائها .
لقد أقدمت أمريكا على قيادة الحرب ،بنفسها ،وبمنطق الغزو والاحتلال ،بعد أكثر من عقد ،من انهيار الاتحاد السوفيتي ،بعد أن تأكد ،أنها ليست مؤهلة و لا قادرة ،منفردة ،على قيادة العالم بتوازن، رغم تفوقها العسكري ، وللخروج من مأزقها المركب، لا سيما في بعده الاقتصادي ، لجأت إلى خوض (الحرب الحقيقية) The Real War التي أكد عليها السنتور الأمريكى ريتشارد نيكسون ،وقتها في كتاب بذلك العنوان والذي نشر عام 1971 ،قبل أن يكون رئيسا لأمريكا ،والذي جاء فيه( أن الحرب الحقيقية التي ينبغي أن تخوضها الإدارة الأمريكية،مهما كانت التضحيات،دفاعا عن مصالحها والأمن القومي الأمريكي ،هي في منطقة الشرق الأوسط ،وبالتحديد في العراق ،الذي يقوده عمليا ، صدام حسين ، بتفكيره الراديكالي) . مع الوضع في الاعتبار أن الكتاب نشر بعد حوالي ثلاث سنوات من تفجر ثورة تموز /يوليو 1968 . وأربعة سنوات على العدوان الثلاثي على مصر فى يونيو / حزيران 1967 ،ردا على تأميم ثورة 23 يوليو لشركة قناة السويس ،وهو ما ينذر ،دون تفاصيل ، بأن المواجهة بين المشروع القومي التحرري من العراق ،والتحالف الامبريالي الصهuوني ، ظلت قائمة، وكامنة، و شبهة حتمية، بقدر تمسك المشروع القومي وتعبيره عن منظوره القومي التقدمي التحرري المستقل .
2
فى لقاء متلفز مع الأستاذ المفكر ،الشهيد لاحقا ،طارق عزيز ، قبيل تنفيذ أمريكا لحربها،أجاب على أسئلة القناة حول فرص تجنب العراق للمواجهة الوشيكة ، وأن العراقيين سيستقبلون الجيش الأمريكي بالورود ،كما جاء في تصريحات لمن أسمتهم (المعارضة العراقية) قائلا:
لقد قدم العراق كل ما يجنبه المواجهة ،وتحمل في ذلك الكثير ، وتعاون مع فرق التفتيش ،رغم علمه بدورهم في التهيئة للمواجهة ،وفند أكاذيب ما سمي إعلاميا بالمدفع العملاق ،وعلاقة العراق بأحداث 11 سبتمبر و بالقاعدة ، وانتشار الرسائل البريدية الملوثة وغير ذلك ، ولكننا نعتقد المواجهة قادمة ،وما هي إلا ذرائع ، ما لم تحصل معجزة.واستطرد الأستاذ طارق عزيز بالقول
العراق يعرف مقدراته ، كما يعرف مقدرات أمريكا وحلفائها . تفوقهم العسكري والمادي ،ولكن ذلك لن يجعلنا نستسلم . هنا يضع المناضل طارق عزيز المواجهة في سياقها التاريخي والحضاري ،وهو يستحضر موقف المجاهدين في ليبيا بقيادة المجاهد عمر المختار في مواجهة الاستعمار الإيطالي وفي السودان بقيادة الإمام محمد احمد المهدي في مواجهة الغزو البريطاني ،كمثال، في عدم الركون للتفوق التسليحي ،الذي أشار إليه اللورد كتشنر فى كتاب (حرب النهر) الذى وصف فيه شجاعة الانصار وبسالتهم وعز الانتصار عليهم بتفوق الاسلحة .
لقد استحضر عزيز فيما استحضر المقولة الخالدة للبطل عمر المختار ( نقاومكم ،ننتصر أو نموت ،ولا نستسلم ،وسيقاتلكم أحفادنا والأجيال من بعدنا ) التى قالها بثبات وهدوء لقائد الاحتلال الايطالى ،وهو مكبل اليدين والرجلين بالجنازير.
ويستطرد عزيز قائلا ،أما من أسميتيهم بالمعارضة العراقية فهؤلاء ليسوا بمعارضة ولا عراقيين ،أنهم مجموعة من الخونة واللصوص والعملاء .
ليس لدى العراقيين ورودا أو زهورا يقدمونها للغزاة ،بل سنقاتلهم من مدينة لأخرى ومن شارع لشارع ،وسنقاومهم حتى بسكاكين المطابخ .
لم يكن ما صرح به عزيز رجما بالغيب أو خطابا لإرضاء الذات ،وإنما ثقة مناضل وقيادة وحزب ، في شعبها، واستيعاب للصراع بعمقه التاريخي والحضاري .
3
بندقية الفلاح العراقي ،البرنو ،وبطولته، ليست صدفة فردية ، بقدر ما هي (حالة تعبيرية) عن مفهوم البطولة الجمعي التي نهض على دعائمها مشروع البعث القومي الوحدوي التقدمي التحرري، بتدشينه (عهد البطولة) ،التي أشارت إليها كلمات الأستاذ طارق عزيز ،عميق الصلة والمعرفة النضالية بالشخصية العراقية والتاريخ ، التى أسهمت ثورة يوليو / تموز ومنجزات تجربة الحكم الوطني بالتوازن والشمول في كافة مجالات الحياة ،في نضجها وقدرتها في الإفصاح عن حقيقة الأمة والعراق ،لا واقعها .والبطولة التي جسدها الحاج عبيد منكاش ، والعراقيون ،والقوميون وأحرار العالم ،يحتفون بالذكرى 55 لثورة يوليو تموز، التي تزامنت مع رحيله ، تأكيد نضالي حي ،على حقيقة الإنسان الجديد ، من خلال الفلاح الذي أسهمت جمعياته الفلاحية في تفجير الثورة ،وفي إنجاح الإصلاح الزراعي ، الذي أعاد توزيع الثروة والخدمات بعدالة ،بارتباطه بالتوازي مع قرار تأميم النفط ،ومحو الأمية ،وتغيير علاقات الإنتاج من شبة الإقطاع المهيمن على الريف العراقي و الأراضي الزراعية ، إلى الملكية الجماعية والعامة والتعاونية،إضافة إلى الخاصة ، لوسائل الإنتاج . وبالحل السلمي الديمقراطي لقضية الأكراد ببيان 11/3/1970 ، وضرب أوكار وشبكات التجسس، وفى مجانية والزامية التعليم والعلاج وثورة التشريعات والتوسع الهائل فى الصروح العلمية والاكاديمية والثقافية والبنى التحتية ….الخ ، كيف لا والانسان هو القيمة العليا للتنمية الشاملة النظيفة ووسيلتها .ولذلك أصبحت البطولة صيرورة ،الزود عن العراق ،و إفصاح عن الثقة في النفس والمستقبل، و حالة تعبير عن الانتماء الوطني الجديد والوفاء للثورة، التي نقلت الشعارات والمبادئ، بالإنسان ،إلى حيز التطبيق ،بمصداقية وفى زمن قياسي وبعدالة ومساواة .
4
مقاومة الحاج منكاش للتفوق التسليحي بالبرنو وبشجاعة ، قبس من سليل بطولة متجذرة في التاريخ القومي والوطني للعراق ،بعثت مجددا من بطولة (الثورة البيضاء) وقياداتها و في الوصول للسلطة دون إسالة قطر دم واحدة ،رغم الصدام والعنف والمرارات السابقة ، و من بطولة الشهيد القائد صدام حسين ورفاقة وأبناءه وحفيده مصطفى،و من بطولات وصولات جيش وشعب العراق في القادسية ، طيلة سنواتها الثمان ، بطولات شهداء العشار، وبطولات المرأة العراقية التي تجلت في تسواهن، وعروس مندلي، وليلى العطار، و ملجأ العامرية والصامدات في محتجزات الغزو المزدوج في أبي غريب وسواها ، إلى بقية الأسماء الحسنى ،بطولات العراقيين والمتطوعين العرب في الاحتجاز والأسر الإيراني،بطولات المناضلين في أبى غريب ،وصمة العار التي ستلازم أمريكا وعملائها إلى يوم الدين ، بطولات قادة الجيش وضباطه و العلماء والمفكرين والأكاديميين والأدباء وشعراء العراق النجباء، ومن بطولات معركة المطار ،والكرادة والأعظمية والكاظمية ،وبطولات الفلوجة ،والموصل الحدباء ، إلى فرادة بطولات وبسالات المقاومة العراقية بمختلف مكوناتها وفصائلها ….بطولات شابات وشباب انتفاضة تشرين المتجددة وهم يتصدون للصفحة الثانية من الاحتلال وإفرازاته وقواه ،والتي لخصها المصير الذي تدحرجت إليه أحوال العراق من خلال تدهور أحوال البطل الرمز وهو يقول بحسرة(بعت البرنو بسبب العوز المادي) لكنه ،لم يبيع شرفه وشرف تاريخ بلاده كما فعل من تأكد فيهم ما قاله الشهيد طارق عزيز مثلما تأكد أيضا (أن العراق لقمة مسننة) التي قالها عنوان البطولة ،فادئ المبادئ ،الشهيد القائد صدام حسين . وبضدها تتميز الثورات و المواقف ويصنع التاريخ ويتجدد.
الرحمة والمغفرة للحاج على منكانش والاجلال لابطال وشهداء معارك النضال التحررى .
امدرمان 23/7/2023
المصدر طليعة لبنان
|
|
Post Views: 38
زر الذهاب إلى الأعلى
Thumbnails managed by ThumbPress
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب