ثقافة وفنون

لماذا تحرمهم من الأباتشي يا زعيم واشنطن!

لماذا تحرمهم من الأباتشي يا زعيم واشنطن!

سهيل كيوان

لماذا تحرمهم المزيد من الأباتشي يا زعيم واشنطن! إنهم أبناؤك، وأنت ملزم بطلباتهم، أنتَ رجلٌ أبيض طيِّبٌ، وقد أقسمتَ أن تدافع عن الحرِّية والديمقراطية وكرامة الإنسان، وهي قيم أبنائك في إسرائيل، فلماذا تحرمهم المزيد من الأباتشي!
يعرف العالم كلُّه أنّك أعطيت وتعطي بلا حساب، وهو ما فعله أسلافُك البيض، وأنّك تقف أحياناً وحيداً في الحلبات الدولية، لتنقض أيَّ قرارٍ فيه مسٌّ بابنك المدلل، فلماذا تحرمه الأباتشي، وما هذه القسوة الطارئة غير المفهومة لا للأعداء ولا للأصدقاء!
نعرفُ أنّها ليست سوى وقفة والدٍ حنون تجاه صغيره المدلّل، فيهدّده بحرمانه من مثلّجات أو من شوكولاتة أو من كعكة دسمة، قد تسبِّب له المزيد من السّمنة والترّهل، وأنت تريد ابنك رياضيًا ممشوقًا، تريده أقوى، ولهذا تكذب وتقول له سأحرمك من الأباتشي!
من حقك أن تسأله: ماذا فعلت بالملايين التي أعطيتها لك! أين ذهبت بالذخائر كلِّها، لقد صرفت منها ما صُرف في أفغانستان في ثلاث سنوات وأكثر، وعلى مساحة أضعافٍ كثيرة من مساحة قطاع غزة!
إذا كنت أنت الذي تغرف من بحر تتذمّر من قلّة الذخيرة، فماذا يقول أولئك الذين يجمعون الخردة من الشّوارع والأبنية المهدّمة ومن السُّفن الغارقة في البحر، وحتى من بقايا الذخيرة التي تلقيها عليهم لإعادة تدويرها وصنع سلاحهم البسيط، الذي يشبه حراب الهندي الأحمر في مواجهة دروعكم وقلاعكم الطائرة!
لماذا اختارت شركة بوينغ اسم أباتشي للمروحية الهجومية التي اكتوى بنيرانها الفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون والليبيون وغيرهم، عرفتها عربات الغزّيين التي تجرّها الخيول والحمير وهي تنقل النازحين والشُّهداء والجرحى.
لن أخوض في خصائص الأباتشي، فهي أكثر من دبّابة طائرة، وممكن رؤية قدراتها في مواقع كثيرة.
الأباتشي اسم لإحدى قبائل الهنود الحمر، عاشت في أمريكا الشمالية، وهم محاربون أشِدّاء قاوموا الاحتلال الأوروبي الأبيض لبلدهم في القرن السادس عشر، وقد أطلق عليهم الإسبان هذا الاسم (أباش) الذي يعني السَّفلة!
لماذا سفلة! لماذا مخرّبون! لماذا إرهابيون!
هذه بديهيات قديمة ما زالت إلى يومنا، يطلقها المستعمرون على من يقاوم احتلالهم! ويطلقها الجالسون في السُّلطة على من ينازعهم فيها.
لقد تغيّر الإسبان كثيراً منذ تلك الأزمنة، وها هم يناصرون أبناء شعب الأباتشي المعاصر في قطاع غزة الذين يصفهم الرّجل الأبيض في تل أبيب بأنّهم من السَّفلة القتلة ولا أبرياء فيهم، ولا حتى أطفالهم، وما زال موقف الرَّجل الأبيض في واشنطن في مكانه منذ قرون.
هل هي حرب إبادة على غرار حروب إبادة الهنود الحمر حيث بلغ عدد الضحايا عشرات الملايين!
اشتهرت في هذه الحرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يسمى رقصة الهندي الأحمر، التي يؤدّيها شاب فلسطيني أعزل في مواجهة آليات الاحتلال وجنده، وانتقلت إلى ميادين مدن كثيرة في شتى أصقاع الأرض، يؤدّيها مناصرو الشعب الفلسطيني وقضيته في مظاهراتهم، وخصوصاً بعد ما رأوا من جرائم بحق الطّفولة الفلسطينية.
هي صرخة موجعة تقول بأنّ الفلسطيني يواجه ما حدث للهنود الحمر، هذا التشابه سبق وعبّر عنه سياسيون وشعراء وأدباء وصحافيون ومفكّرون، أشهر هذه المقاربات هي قصيدة محمود درويش «خطبة الهندي الأحمر قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض». استلهمها من خطبة الزعيم الهندي الأحمر سياتل، ويقال إنَّه ألقاها أمام أبناء شعبه عام 1854 بعدما أُرغم على تسليم بلاده للأمريكيين البيض.
يفتتح سياتل خطبته بلغة أدبية شعرية:
«زعيم واشنطن الكبير يقول في رسالته، إنّه يريد أن يشتري بلادنا، ويقول لي إنَّه صديقي، وإنّه يكِنُّ لي مودّةً عميقة، ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، ولا سيّما أنّه في غنى عنّي وعن صداقتي.
لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أنّنا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الأبيض مدجَّجاً بسلاحِه وينتزعها! كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السَّماء ودفء الأرض. ما أغرب هذه الأفكار! كيف نبيع طلاقة الهواء! كيف نبيع حِباب الماء ونحن لا نملِكُها! كلُّ شبرٍ من هذه البلاد مقدَّسٌ عند شعبي، كلُّ خيطٍ من ورق الصنوبر، كلُّ شاطئ رمليٍ، كلُّ مدىً من الضَّباب في غياهب الأحراج، كلُّ حشرة تمتص ما تمتص أو تطِنُّ، كلُّه مقدَّسٌ في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة.
ويستمر في خطبة مثيرة للشجن والألم، مكتظّة بالعاطفة الحارقة والإلهام والفلسفة، وليس صدفة أن يستلهم منها محمود درويش قصيدة «خطبة الهندي قبل الأخيرة» في مقاربة مع الفلسطيني الذي اضطر للتنازل عن جزء من وطنه تحت وطأة موازين القوى المختلة بصورة فادحة، وقبوله بالتسوية على أساس اتفاقات أوسلو، التي لم تُحترم من الجانب الأبيض، رغم ما فيها من ظلم وضيم للأحمر الفلسطيني.
بعض ما يقوله درويش في قصيدته:
«إلى أين يا سيّد البِيضِ تأخذُ شعبي وشعبَكَ! إلى أيِّ هاوية يأخذ الأرض هذا الروبوت المدجَّج بالطائرات وحاملة الطائرات، إلى أيِّ هاوية رحبة تصعدون، لكم ما تشاؤون: روما الجديدة، إسبارطة التكنولوجيا، وأيدلوجيا الجنون».
يختلف درويش عن سياتل بأنّه يرى أنّ الكارثة سوف تحلُّ في الشَّعبين وليس بشعب الهنود الفلسطينيين دون الإسرائيلي!
هنالك اعتقاد بأنّ خطبة الهندي الأخير كتبها أستاذ في الأدب من جامعة واشنطن، وأنها ليست لذلك القائد الهندي الأحمر سياتل، وبغض النظر عن مؤلّفها، فهي معبرة جداً عن حال الهندي في مواجهة الإبادة.
حدّثني صديق فلسطيني مقيم في أمريكا، كان طفلاً عندما نجا والداه من مجازر لبنان عام 1982 بعد حصار بيروت، واللذان كانا قد ولدا بعد نجاة جدّيه من مجازر عام 1948 في فلسطين، ثم تنقّلت الأسرة من بلد إلى بلد، إلى أنْ وصلت أمريكا، قال إنَّ هنالك تملمُلاً من قبل الأمريكيين العاديين من سياسة سيد واشنطن المؤيدة لإسرائيل بصورة مطلقة، ولكنّه ما زال ضعيفاً وأقلَّ من المطلوب للتغيير، كذلك فإن الإمكانيات الإعلامية والمالية في يد المجموعات الصهيونية، وقد هدَّدوا كثيرين ممن تضامنوا مع فلسطين بمصادر رزقهم.
أمريكا الرَّسمية ما زالت تعيش في عقلية إبادة الشّعوب التي لا تطيعها، أما الامتناع المؤقت وعقاب الولد المدلّل على تبذيره للذخيرة بحرمانه من أباتشي أخرى، فهذا دخان فسفوري لن يحجب الموقف حقيقة التواطؤ مع إبادة الفلسطينيين بالمعنى الحرفي للكلمة، وحتى اللحظة ما زال العجوز الأبيض جو بادين يرفض ببرود لوحٍ من الجبس وقف حرب الإبادة، ويبرِّرها بحقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ويبدو أكثر صفاقة ووقاحة واستهتاراً بوعي البشر، عندما يحاول تجميل موقفه العنصري الإجرامي القبيح، ويتظاهر بصداقته لبعض الفلسطينيين والعرب، وبنواياه الطيبة تجاههم وتجاه قضيتهم، كما تظاهر السَّيد الأبيض في واشنطن بصداقته لسياتل الهندي الأحمر زعيم الأباتشي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب