لينا مِرواني.. عن “العودة المستعارة” و”الجدران الغزّيّة” وأشياء أخرى!كتبت بديعة زيدان
كتبت بديعة زيدان
لينا مِرواني.. عن “العودة المستعارة” و”الجدران الغزّيّة” وأشياء أخرى!
كتبت بديعة زيدان:
على عكس والدها الذي لم يكن يريد لقدمَيه أن تدوسا أرض فلسطين، وهي محتلة، تقرر الروائية والكاتبة الفلسطينية التشيلية لينا مِرواني توثيق فلسطين كما رأتها، وكما ورثت بعض رواياتها عن والدها وجدها، ومن سبقهم من عائلتها التي هاجرت من بيت جالا في العام 1915، هرباً من تعسف الحكم العثماني وقتها.
كانت رحلتها إلى فلسطين مختلفة، كما قصصها التي تختلط في “أن تعودي فلسطين”، الصادر عن “الكتب خان” للنشر والتوزيع في القاهرة، ما بين كونها سردية سيرية، أو أدب رحلات، أو مجموعة قصص، أو رواية بشكل ما، أو كلّ ذلك، وإن فضلت هي كما يقول العمل إلى العربية الفلسطيني المكسيكي شادي روحانا، تسميته بـ”الكتاب”.
إنها رحلة إلى الأرض التي لا تزال محتلة، وعادت إليها مجدداً لتطلقها بالعربية في تشرين الثاني من العام 2022 في مؤسسة عبد المحسن القطان، مُستعرضةً الجوانب الشخصية والإنسانية في العودة التي وصفها بـ”المستعارة” إلى فلسطين، ووصف تفاصيل مليئة بمشاهد الحياة في فلسطين، كما هو حالها مع استعراض جوانب من سيرتها وذكرياتها منذ هجرة أجدادها من فلسطين العام 1915، لتشكل رحلة داخل النفس تقدّم فيه مداخلتها السردية حول فلسطين وقضيتها، وفي الوقت ذاته هي رحلة بحث عن جذورها لجهة الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها أو طُرحت عليها حول أصولها الفلسطينية، قبل أن تلبي دعوة لطالما حاصرتها بخصوص العودة إلى فلسطين، لكن ما حدث في الغرب، وخاصة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وما شاهدته من سوء فهم والتباس حول القضية الفلسطينية دفعاها لهذه العودة الجزئية، والكتابة الجريئة والحميمة عنها في آن.
يحفل كتاب “أن تعودي فلسطين” بالعديد من الأسئلة الشائكة حول الأصل، والهوية، والوطن، والحدود، واللغة، وغيرها من التفاصيل الدقيقة حول واقع ما صوّرته عدسات عينيها، كما يقدّم جانباً من سيرة مِرواني باعتبارها أحد أبناء المهاجرين الأوائل، بحيث تتضافر حكايات الأجداد مع ذكريات الطفلة لينا، لتخرج الكلمات وكأننا في دار للأوبرا، بحيث تعزف جوقة من أصوات ولغات وهويات متداخلة مشاهد من بلدان عدّة ما بين تشيلي، ونيويورك، وفرنسا، ومصر، والغرب، وفلسطين الوطن، والهوية، والإنسان، والتاريخ، والسياسة، وأيضاً فلسطين من الناحية النفسية والعلمية.
تبدأ مِرواني كتابها الذي تهديه إلى والدها “رافض العودة”، باقتباس لإدوارد سعيد مفاده “أن مصير الفلسطينيّين، بطريقة ما، هو أن ينتهي بهم المطاف ليس حيث بدؤوا، بل في مكان ما غير متوقع وبعيد”، متحدثة في الفصل الأول الذي أسمته “لوعة الأشياء” عن “العودة المستعارة”، متحدثة بجرأة المتسائل: “أكلم نفسي: هي ليس بعودة، بل مجرّد زيارة أرض تطؤُها قدماي لأول مرّة، أرض ليس لها أي وجود في ذاكرتي، ولو صورة واحدة منها، فلطالما كان كل ما هو فلسطيني، بالنسبة لي، مجرّد همهمة يسمع صوتها في الخلفية، قصّة نلجأ إليها لننقذ أصلنا المشترك من الاندثار.. إنها عودة، نعم، ولكنها ليست عودتي.. هي عودة مستعارة، أي أن أعود بدل آخرين.. بدل جدّي.. بدل والدي”، لافتة إلى أن والدها لم يكن راغباً بالعودة حد الرفض، فـ “ذات مرّة قرر الاقتراب منها عبر الحدود، كان ذلك وهو في القاهرة، حيث وجّه عينيه الشاحبتين إلى الشرق، وظل يحدّق هناك، حيث فلسطين.. هبّت الريح، ارتفع الرمل في الجو، كما في الخيال، ومرّ بجانبه المئات من السيّاح مرتدي الأحذية إيّاها، المعروفة شكلاً ومقاساً، والسراويل القصيرة، وشنط الظهر.. كانوا سيّاحاً حول رقابهم كاميرات يابانية خانقة، أياديهم تتصبب عرقاً بسبب الصناديق التي يحملونها، وكانوا محاطين بمرشدين سياحيّين ومترجمين لا يعيرونهم أي انتباه.. اشرأب أبي برأسه من بينهم.. مدّ نظره إلى تلك البقعة الصغيرة من فلسطين، الملتصقة بمصر، إلى ذلك الجزء من فلسطين، البعيد والمختلف عن الفكرة التي كانت قد تكوّنت في ذهنه عن “بيت جالا”.. هناك تقع غزة المحاصرة، تحت القصف”.
وواصلت لينا الحكاية: “.. وكان في مناسبة أخرى، على الحدود الأردنية، كان بصره ممتداً نحو الصحراء قاطعاً الحدود.. كان عليه مجرّد الاقتراب من المعبر، لكن قدميه بقيتا مغروستين في رمل الحيرة المُراوغ.. أمي، ما إن اكتشفت أن هناك فرصة كامنة في تردّد والدي، أشارت بعيداً، هناك، بسبّابتها الصغيرة الممدودة والمتيبّسة نحو وادي نهر الأردن الرحب والمنسلخ من جبل نيبو، إلى كل تلك المياه المندفعة، والتي تعتبر بحسب الديانة المسيحية مقدسة، وأصرّت على العبور إلى الضفة الغربية.. هيّا بنا نذهب إليها قالت بإلحاح، وكأنها هي الفلسطينية بينهما، فبعد سنوات من العيش سويّاً، هذا ما باتت تشعر به والدتي، أي أنها مجرّد صوت كأي صوتٍ وسط هذه العشيرة الثرثارة، لكنّ والدي استدار وراح يمشي في الاتجاه المعاكس.. لم يرد لنفسه أن يخضع لعملية الانتظار الاعتباطي، وللتفتيش الدقيق في محتويات حقيبته، وللتحقيق التعسفي على الحدود الإسرائيلية والحواجز الأمنية التي ستتبعها.. لن يُعرّض نفسه للتعامل معه كمشبوه، وللزعم بأنه غريب في أرض هي أرضه”.
وفي الفصل الأول ذاته تحدثت عن الروايات المتضاربة حول فلسطين ومسيحيتها، وحول العائلة، وعن الطرف التشيلي من حكايتنا الفلسطينية، وبيت جالا، وحكاية حب جدّيها، واللافتة الصغيرة الآيلة للسقوط.
أما “النداء الفلسطيني”، وهو الفصل الثاني من كتاب مِرواني، فتحدثت فيه عن وجهتها إلى فلسطين، والتباس العودة، في حين كان بارزاً تلك العبارات التي طمست بالأسود، وكأنها الرقابة الذاتية، أو الفراغات غير المكتملة في الذاكرة، والتي على لينا الطفلة أو التي كبرت وباتت في أواسط الخمسينيات من عمرها أن تملأها، أو أنها تترك المهمة للقارئ، كأنه يحل “كلمات متقاطعة”، وهو ما كان في “سانتياغو- يافا: 23 يناير”، و”يافا_سنتياغو: 24 يناير”، و”يافا- نيويورك: 29 يناير”، فيما تنوعت العناوين ما بين عربية وإنكليزية أيضاً، بدراية وتوظيف له دلالاته ورمزياته، قبل أن تتحدث عن “الندبة”، والتمييز الواضح بين الركاب في مطار اللد (بن غوريون)، فيما تواصل لينا رحلتها في “قرى غارقة”، و”بيوت بالأولاد”، و”التفرّج على البحر”.
وكان الفصل الثالث بعنوان “وجوه في وجهي”، تحدثت فيه عن مروة هلال الأستاذة الجامعية، وياسمين بن عبد الله السينمائية المغربية الشابة، والممثلين في المسرح الفلسطيني بحيفا، والراقصين الفلسطينيين الذي يتدربون في سراديب القدس المليئة بالجنود الإسرائيليين، والثنائي السنغالي اللذين يدخلان كل مساجد القدس ليصليا فيها، وغيرهم.
وفي الفصلين الرابع “قناع مأتمي”، والخامس “دلائل موثوقة”، والسادس “بقايا وجوه”، تثبت مِرواني أن كتابها المغناطيسي حافل بالتفاصيل الصغيرة، والمشاهد اليومية التي يمكن وصفعها بالبسيطة، لكنه أيضاً يحمل بين دفّتيه أسئلة كبرى، ليخرج كنسيج متعدد الألوان والمعاني.
وكانت لينا مِرواني كتبت تحت عنوان “جدران غزّيّة”، أن “غزة عبارة عن سجن كبير في الهواء الطلق، مُحاطة بجدران إسمنتية مُتناوبة مع أبراج وأسلاك ملتفة، وهي مراقبة من الجو والبحر والأرض، وهي الأكثر كثافة سكانية في العالم، وفقيرة جداً”، قبل أن تشير إلى رسالة من صديق حول إمكانية دخولها القطاع، مفادها: “الأمر مستحيل عملياً، إلا إذا أتيتِ بإذن خاص صادر من بعثة دولية ولاؤها لإسرائيل موثوق، أو كان لديكِ علاقات بالجيش، أو قريب مريض يواجه خطر الموت، والوسيلة الأخرى هي الذهاب إلى القاهرة، والسفر حتى الحدود، عبر الصحراء، وعبر نقطة الحدود جرياً وكأنك امرأة غزّيّة دون وثائق، لكن درجة الخطر هنا مضاعفة”، قبل أن توقن أن “دخول غزة عبر معبر رفح أسهل، نعم، لكن الكثير من الناس يضطرون إلى الانتظار أياماً ولا يدخلون.. قرعتُ الكثير من الأبواب لزيارة القطاع، لكن غزّة بدت مغلقة بقفل لمفتاح ابتلعته إسرائيل، التي تقصف الفلسطينيين المأسورين فيه”.
وفي محاكاة لما يحدث اليوم من حرب إبادة في قطاع غزة، كانت مِرواني كتبت تحت العنوان نفسه: “الآن، ترميهم إسرائيل بأطنان من الموت، وكأنها تمسح الأرض قبل فتح باب السجن، وكأنه ضروري إغلاق المدخل كي لا يرى أحد كابوس الحياة والموت داخل الجدران.. سيصبح متأخراً، قلتُ في نفسي، حين لن يبقى شيء، حين لن يكون هناك أحد ليحكي كيف كانت المقاومة في الداخل”.
الايام الفلسطينية