ثقافة وفنون

المرأة في رحلة محمد المرّ … وفنّية الجذْب في الكتابة السّردية

المرأة في رحلة محمد المرّ … وفنّية الجذْب في الكتابة السّردية

عبد المجيد بنجلالي

لا تكاد تخلو رحلة من الرحلات التي قام بها العرب أو الغربيون على مرّ التاريخ من طرْق موضوع المرأة وتخصيص حيّز لها في كتاباتهم، خاصّة إذا كانت الرحلة لرحّالة عربي إلى أوروبا، أو رحّالة غربي إلى دول عربية قديما وحديثا، مع اختلافات في تناول موضوع المرأة حسب ثقافة الرحالة ومعتقده وفلسفته في الحياة. وبالعودة التي بعض الرحلات العربية نفسها سنجد اختلافا كبيرا في حديثهم عن المرأة، كما في رحلة ابن بطوطة ورحلة ابن فضلان، ورحلة العمراوي إلى باريز، ورحلة المكناسي إلى مالطة ومملكة نابولي، وغيرها من الرحلات القديمة والحديثة. ونجد الشيء نفسَه في رحلات الأوروبيين إلى الدول العربية، وقد جُمعتْ أغلب آرائهم في الكتب والمؤلفات التي اختصّت بأدب الرحْلات.
والكاتب محمد المرّ يصف في رحْلته المرأة حسب المقام والسياق. وأوصافُه ناتجةٌ عن بديهة لا تخلو من موهبة وعن معرفةٍ، يُعبّر فيها بصراحة بحيث يُدَوّنُ كل ما يجول في خاطره. كما أنّ أوصافه للمرأة لا تخلو من جمالية في السّرد مع ما يَصحبُ ذلك من إمتاع ومؤانسة.
وقد سبق الكاتبَ إلى الصّراحة رحالون كثيرون نذكر منهم، ابن فضلان أحمد، وقد تناولناه ضمن مباحث هذا الكتاب، ونورد نصّا لرحّالة آخر امتاز بالصّراحة في وصف المرأة وهو المكناسي بن عثمان الذي لم يتحرّج – على الرّغم من مرجعيته الدينية – في تقديم وصف صريح للمرأة بأسلوب كان محبّبا في عصره، يقول واصفا امرأة في لحظة رقْصها: «ثم رُفعَ حجابٌ وفُتِح باب، وبرزتْ فتاةٌ من خِدرها تتأبّى في حُلّةٍ بيضاء كَهالةٍ حاطت ببدْرها، ثم عرجت إلى معارج في الصّدر، وطلعتْ فيها بازِغة كالبدْر، فأشركَ من ذلك النّفر جمْعٌ كبيرٌ وكفر! وتضوّع ذلك المجلسُ عَرْفَها ونَشْرها ونشرت أوراق الغناء فتوالى فتحُها ونَشْرها، وأعقب لفّها نشرها، وقرّبت إليها آلة من مزامير داود يسمّونها الآربة ذات أوتار لها ألحان محرّكة مطربة فأخذتْ في استعمالها ونقْرها بما حلّ من النفوس الآبية عقد صبرها، ثم وقف بإزائها صبيٌّ خصيّ حيّ، فجعلا يغنّيان بأصوات وألحان أنيقة، وأحوال لطيفة رقية، فالصبيّ يحكي حال عاشق مُتيَّمٍ سَقيم، والفتاة تحكي حال المعشوق الذي هو منحرفٌ عن صاحبه غيرُ مُستقيم، وما بين ذلك من الشّكوى عند المُسامرة والنّجْوى، حتى استمالت النفوسَ، وصارت طلائع كتائب محاسنها في خلال الأفئدة تَجوس، وهدأت الأصواتُ والقوم أحياء في حيّز الأموات، كأنّما الطيّر منهم على الرؤوس! فلا يتكلّمون إلا رمزا أو إشارة بحاجب أو غمْزا، فإن نقرتْ آلة تشبه العود أنستْك مزامير داود، وإن غنّت بلا آلةٍ بِفيها، أنستْك الدّنيا بما فيها، تحفة من تحف الزمن، لاهي في الشام ولا في اليمن! لا شيء يعادلُها في الدّنيا ولا يُكافيها، فإذا مشت الهويْنى فضَحت فيما صنع رُديْنا، وإذا افترت باسمة كانت للقلوب قاسمة، وإذا نظرتْ بِلِحَاظِها شزْرا تركت القلوبَ متألّمة حسْرا، فإذا أقبلتْ قتلتْ، وإذا ولّت استوطنت القلوبَ وحلّت، بعدما أضلّت العقول والأحلام وأزلّت، فما استكملت ما أتتْ به من الغناء والطرب الذي من وراء العجب، وقعَدتْ تستريح مما نالها من التّعب، أخذ القومُ في محاسنها يتحدثون، ويتناجوْن ويتخافتون، كل إنسان مع جليسه ونديمه وأنيسه، مع انعقاد الاتفاق والإجماع على أن لم ترَ مثلَها النّواظِرُ والأسماع، وأذعَن إليها الحِسَان اللواتي ذِكْرهُنّ في الدنيا مُشاعٌ أقرّ الخصْم فارتفع النزاع!».
لو أخضعنا هذا النصَّ وغيره من نصوص ابن عثمان في المرأة سنجد أن الحصانة الدينية لم تعُد تنفعه في ما رآه ووصفه، وأنه خطا خطوة أولى نحو الذوبان عبر المعجم الوارد في وصفه لهذه المرأة.
وقد أوردتُ هذا النصَّ في إطار التمهيد لمقتطفات نصية قصيرة وردت في رحلة محمد المرّ، الذي ينطلق من الخلفية الدينية، لكنَّه يتصرف في الوصف دون حواجز وبكل حرّية. وما يَلفِتُ الانتباه في أحاديث محمد المرّ عن المرأة هو ما يوفّره من مُتعة للسرد وللمحكيّ؛ أي متعة الحكيْ وفنيّتُه في التقاط مفردات تنمُّ عن مخزون ثقافي، وقدرة على التخييل، ودقّةٍ في الملاحظات:
«رجعنا إلى الفندق ثم ذهبنا للغداء في مطعم «تشارلي شابلن» صاحبة المطعم لها بنتان تخدمان فيه بينهما شبَهٌ، لكن أين الثّرى من الثّريّا، الأولى قسيمةٌ وسيمةٌ كما يقول أهل البلاغة، تشبه فاتناتِ السينما في الأربعينيات، بشرة بيضاء وردية وعينان حلوتان خضراوان وأنف وفم فيهما عذوبة واضحة، والثانية باهتة الملامح وكأنها نسخة رديئة من أختها، صدق القول المأثور: الأرحام مزارع».
ولما كان الكاتب بأحد شواطئ بريطانيا وقعتْ عيناه على عجوز فتولّد الوصف الآتي: «شاهدنا على الشاطئ سيدة بريطانية عجوزا، لكنها متصابية، وقد لبستْ مايوه السباحة وساعة رولكس ذهبية وخواتم وأساور ذهبية… ودّعتنا، وطلبت من صديقها المصري أن يرافقها في مشوار السباحة. ويبدو من منظره وهو يسبح أنه يعاني من البرودة وسباحته ساذَجة لكنها تتحكّم به بأمورها ونواياها: تعال هنا، اِسبحْ هنا، اِذهبْ إلى تلك الجهة. ضحكنا منهما وتوجّهنا إلى فندقنا». وغير بعيد عن هذه العجوز نجد الكاتب يصف عجوزا أخرى في سياق مختلف:
– «رأيت امرأة عجوزا يبدو أنها قاربت الثمانين، كانت تمشي مع ابنتها، لم تكن تتشكّى، من الواضح أنها مستمتعة بالمشي إلى قمّة المنحدرات الجَبليّة، تذكّرتُ عجائزَنا المسكينات، هل يقدرْن على بذل هذا المجهود الكبير؟ لا أعتقد ذلك، لقد أمْرضتْهُنّ حياة الكسل الحديثة وانهكتْهنَّ بالأمراض».
فبعد أن قدمّنا أنموذجا لوصف المرأة «العجوز» إحداهن في البحر والثانية في الجبل، ننتقل الآن مع عدسة محمد المرّ التصويرية إلى المطاعم التي شغلت أكثر كتاباته في وصف المرأة، فضلا عن مواطنَ أخرى لكنها لم تكن بتلك الكثرة التي وجدناها في المطاعم مثل سائقة تاكسي قبل أن نعود إلى عجوز أخرى لكن هذه المرة جاءت في كامل الأناقة.
– نادلة في مطعم: «النادلة التي قدّمت لنا وجبة الغداء خمسينية ممتلئة تشبه إحدى بطلات ديكنز. جلست فتاة حسناء إلى طاولة بالقرب من النافذة. ولما كان لباسها خفيفا جدّا وأشعّة الشمس محرقة جدّا فقد انتقلت إلى طاولة أخرى في الظلّ».
– نادلةٌ في مطعم آخر: «تعشّينا في مطعم صيني اسمه (مستر اتشاو) استقبلتنا عند الباب فتاة إيطالية حسناء وأخذتنا إلى طاولة بالقرب من الباب».
– النَّادِلات وفتح الشهية: «تغدينا في مطعم «تشارلز ديكينز». لم يأكل زميلي بشهية، سألته: ألا تجد الطعام لذيذا؟ قال: لا. قلتُ لماذا؟ قال: إن من يُقدّمه ليس بلذيذ. فهناك الوجوه التي تفتح الشهية والوجوه التي تسدّ الشهية، أين هذه البقرة السّمينة من تلك الغزالة الحسناء التي كانت تخدمنا في مطعم تشارلي شابلن».
– تركيتان في مطعم: «كان النادل الطويل يتمازح مع فتاتين تركيتين كانتا ترتديان ملابس قصيرة وضيّقة جدّا، وكانت زينتهما ومكياجهما مُبالغ فيهما إلى حدّ السوقية والابتذال. حتى الإنكليز المحافظون الذين لا يتدخلون في شؤون الناس كانوا ينظرون إليهما باستغراب».
– وصف عجوز فرنسية بإيطاليا: «في أثناء تناول الإفطار في الفندق، جلستْ عن يميني امرأة عجوز فرنسية وزوجها، ويبدو من فعل الزمان في وجْهيهما أنهما قد تخطّيا سنّ الثمانين، لكنهما كانا في كامل أناقتهما وعلى استعداد لمواجهة يوم جديد من السياحة في معالم مدينة فلورنسا، يعجبني في عجائز وشيوخ الأوروبيين هذا الحبّ للحياة، تشاهدهم في المتاحف والمعارض الفنّية والعروض المسرحية وحفلات الموسيقى الكلاسيكية، عجوز وزوجها أو برفقة أحد أبنائها أو إحدى حفيداتها أو مع أصدقاء من المرحلة العمرية نفسها».
– سائقة تاكسي: «سائقة التاكسي سيدة نحيفة نَشيطَة وثرثارة».
هكذا ينقلنا محمد المرّ إلى عالم مختلف تماما عن العوالم التي كان حضور المرأة فيها كما في رحلة ابن فضلان مثلا، بحيث نجد المرأة الجارية والمرأة التي تقدَّم كقربان بعد موت سيّدها، والمرأة التي تشارك الملك في مراسم الاستقبال، والمرأة التي تمثّل مَلَك الموت، والمرأة الساقطة التي هي في متناول الجميع وو… فالمرأة في كل الأوصاف التي قدّمناها في رحلة ابن فضلان تُعَدّ تابعة وخاضعة أمّا المرأة لدى محمد المرّ فتعكس جانبيْن:
– رَصْدُ مظاهر الجمال والحُسن والجاذبية: وقد برع الكاتب في وصف تقاسيم جسدها بدقّة مع ما يلحق بذلك من مساحيق ومواكبة للحركات وقراءة للأفكار، وهو بوصفه ذاك يحبّب للقارئ حتى العجوز المتصابية والعجوز الممارسة للرياضة، التي عبّر بها ضمنيا نساء بلده اللواتي فضّلن الكسل والخمول على الحركة.
تحقيق جاذبية فنّية في الكتابة: فالكاتب كان رسّاما وفنّانا ومتشبِّعا بعلم الجمال ومُتسلِّحا بالحسّ الحضاري في وصْفهِ لتلك الدقائق وسرْدِه للتفاصيل.

أكاديمي من المغرب

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب