
المخابرات الأميركية: كنا سنغزو العراق حتى لو كان بحوزته مشبك ورق فقط
مصادر الاستخبارات الغربية اختلقت المعلومات من أجل المال أو لمجرد الإطاحة بصدام حسين
نشر موقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي باللغتين العربية والإنجليزية تقريراً بقلم غوردن كوريرا، المراسل الامني للهيئة، تضمن تفاصيل مهمة للغاية عن مرحلة تهيؤ الولايات المتحدة وبريطانيا لارتكاب جريمة غزو العراق سنة 2003، ولأهمية ما ورد في التقرير تعيد صحيفة وجهات نظر نشره لقرائها.
…
غوردن كوريرا
بعد مرور 20 سنة على غزو العراق، لا يزال الجدل مستعراً حول مسألة وجود “أسلحة دمار شامل”، وهي الحجة التي استخدمتها المملكة المتحدة لتبرير مشاركتها في ذلك الغزو. إلى جانب الولايات المتحدة.
وقد ظهرت تفاصيل جديدة فيما يتعلق بقضية البحث عن أسلحة دمار شامل، ضمن سلسلة جديدة بعنوان “الصدمة والحرب: 20 سنة على غزو العراق”، تستند إلى لقاءات أجريت مع عشرات الأشخاص الذين كانوا على صلة مباشرة بالأمر.
“يا للعجب”! كان هذا رد الفعل المقتضب الذي صدر عن مسؤول كبير بجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني “أم آي 6” عندما أخبره زميل له بأن الأميركيين جادّون بشأن الحرب في العراق.
بالنسبة للولايات المتحدة، كانت قضية أسلحة الدمار الشامل ثانوية مقارنة برغبتها في الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين.
كما يتذكر مسؤولون بوكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي أيه” صدمة نظرائهم البريطانيين. يقول لويس رويدا رئيس مجموعة عمليات العراق بالسي آي أيه: “ظننت أنهم سيصابون بأزمة قلبية.. لو لم يكونوا رجالا مهذبين لهمّوا بصفعي عبر الطاولة”.
سرعان ما بلغت الرسالة داونينغ ستريت، مقر رئيس الوزراء البريطاني. الرسالة سلّمها مسؤولو الاستخبارات وليس الدبلوماسيين.

ديرلاف
وفي مقابلة نادرة مع بي بي سي، قال سير ريتشارد ديرلاف رئيس أم آي 6 آنذاك وأحد المسؤولين الذين كانوا يترددون على واشنطن باستمرار “على الأرجح كنت أنا أول من قال لرئيس الوزراء “شئت أم أبيت، عليك ترتيب الصفوف والاستعداد لأنهم على ما يبدو يتأهبون للغزو”.
كان جهاز أم آي 6 على وشك التورط في واحدة من أهم محطاته التاريخية وأكثرها إثارة للجدل.
بالنسبة للولايات المتحدة، كانت قضية أسلحة الدمار الشامل ثانوية مقارنة برغبتها في الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. يقول رويدا “كنا سنغزو العراق، حتى ولو كان ما بحوزة صدام هو مجرد رابط مطاطي ومشبك ورق.. كنا سنقول إنه سيستخدم هذه الأشياء لفقء عينك”.
أما بالنسبة للملكة المتحدة، فإن التهديد المفترض من قبل أسلحة الدمار الشامل العراقية – سواء كيمياوية أو بيولوجية أو نووية – كان أمراً حيوياً لإقناع الرأي العام المتشكك.
زُعم في بعض الأحيان أن حكومة المملكة المتحدة اختلقت مزاعم أسلحة الدمار الشامل. لكن الوزراء من تلك الفترة يقولون إنهم تلقوا تأكيدات من مسؤولي استخباراتهم بشأن وجود تلك الأسلحة بالفعل.
يخبر رئيس الوزراء السابق توني بلير قائلا “من المهم جداً فهم أن المعلومات الاستخباراتية التي كانت تصلني هي ما كنت أستند إليه”. ويقول إنه عشية الغزو، طلب تأكيدات من لجنة الاستخبارات المشتركة وحصل عليها. يرفض بلير انتقاد أجهزة الاستخبارات بسبب ما وقعت فيه من أخطاء.
يذكر وزراء آخرون إنهم كانت لديهم شكوك آنذاك.
يقول وزير الخارجية آنذاك جاك سترو “في ثلاث مناسبات سألت ريتشارد ديرلاف عن مصدر تلك المعلومات الاستخبارية. لقد كنت أشعر بعدم الارتياح إزاء الأمر. لكن ديرلاف أكد لي في كل مرة أن هؤلاء العملاء موضع ثقة”. بيد أن سترو يقول إن المسؤولية تقع على عاتق الساسة في نهاية المطاف لأنهم هم من يتخذون القرارات النهائية.
بسؤاله عمّا إذا كان يعتبر غزو العراق إخفاقاً استخبارياً، يجيب ديرلاف ببساطة “لا”. فهو لا يزال مقتنعاً بأن العراق كان لديه نوع ما من برامج الأسلحة، وأن بعض عناصر ذلك البرنامج ربما نُقلت عبر الحدود إلى سوريا!
لكن آخرين يختلفون معه في الرأي. يقول ديفيد أوماند، منسّق الشؤون الأمنية والاستخبارية بالمملكة المتحدة آنذاك “كان إخفاقاً كبيرا”، مضيفاً أن التحيز التأكيدي أدى إلى تركيز خبراء الحكومة على معلومات مبتسرة دعمت فكرة امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل وإهمال أية معلومات أخرى لا تساند تلك الفكرة.
البعض من داخل أم آي 6 يشيرون إلى أنهم هم أيضا كان لديهم شكوك. يقول ضابط بالجهاز عمل على ملف العراق وطلب عدم الكشف عن هويته “شعرت آنذاك بأن ما نفعله كان خطأ”.
مقر المخابرات البريطانية
يضيف الضابط السابق، متحدثاً عن فترة بداية عام 2002 “لم يكن هناك معلومات استخبارية أو تقييمات جديدة أو موثوق بها تشير إلى أن العراق أعاد البدء في برامجه لأسلحة الدمار الشامل، وأنها كانت تشكل تهديداً وشيكا.. أظن أنه من وجهة نظر الحكومة، كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعثروا عليه.. أسلحة الدمار الشامل كانت الشماعة الوحيدة التي يمكنهم تعليق (شرعية) الغزو عليها”.
معلومات الاستخبارات المتاحة في ربيع عام 2002 كانت غير مكتملة. ولم يكن عملاء أم آي 6 الذين يعملون على ملف العراق منذ وقت طويل لديهم الكثير من المعلومات، أو أي معلومات على الإطلاق، حول وجود أسلحة دمار شامل، وكانت هناك عملية بحث مستميتة عن معلومات استخبارية جديدة من مصادر جديدة لدعم القضية، لا سيما وأنه كان من المزمع تقديم ملف حولها في أيلول/ سبتمبر.
يتذكر شخص آخر عالم ببواطن الأمور فك شفرة رسالة فحواها أنه “لم يعد هناك دور مهم” لوكالة الاستخبارات سوى إقناع الشعب البريطاني بضرورة تنفيذ عمل ضد العراق. ويضيف أن تساؤلات أثيرت حول ما إذا كان ذلك الأمر لائقاً، ثم مُسحت الرسالة.
في 12 أيلول، ذهب ديرلاف إلى داونينغ ستريت يحمل أخباراً عن مصدر جديد مهم للمعلومات. هذا الشخص زعم أن صدام حسين أعاد البدء في تشغيل برامج أسلحته، وتعهّد بتقديم تفاصيل جديدة في القريب. ورغم أن ذلك المصدر لم يخضع لكامل إجراءات الفحص، ولم تُعرض معلوماته على الخبراء، أعطيت التفاصيل لرئيس الوزراء على أي حال!
يرفض ديرلاف الاتهامات التي وجهت إليه بأنه كان قريباً أكثر من اللازم من داونينغ ستريت ويصفها بأنها “سخيفة”، لكنه يرفض التعليق على تفاصيل القضية أو على أية مصادر بعينها. لكن خلال الأشهر التالية، لم يقدّم المصدر الجديد أي تفاصيل وتقرّر في نهاية الأمر أنه اختلق الأمر برمته، بحسب مصادر استخبارية أخرى.
من المرجّح أن بعض المصادر الجديدة كانت تختلق المعلومات من أجل المال، أو لأنها كانت تريد الإطاحة بصدام حسين. في كانون الثاني/ يناير سنة 2003، التقيت في الأردن بمسؤول كان قد انشقّ عن جهاز الاستخبارات التابع لصدام حسين. زعم المسؤول أنه كان يعمل ضمن فريق عهد إليه تطوير مختبرات متنقلة للعمل على إنتاج أسلحة بيولوجية بعيداً عن أعين مفتشي الأمم المتحدة.
ويزعم أن معلوماته ضُمنت في العرض التقديمي لوزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول بالأمم المتحدة في شباط/ فبراير 2003، رغم أن بعض مسؤولي الحكومة الأميركية كانوا قد أصدروا ما يطلق عليه “إخطاراً بالحرق” بشأن تلك المعلومات، قائلين إنه لا يجب الوثوق فيها. كما أن مصدراً آخر أطلق عليه اسم “كيرف بول” (Curveball) (رافد الجنابي) والذي كانت تعتمد عليه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كان يختلق تفاصيل حول المختبرات المزعومة.
أخبرني أحد كبار علماء العراق لاحقاً بأن الرئيس كان قد أمر بتدمير معظم برنامج أسلحة الدمار الشامل الذي كان يمتلكه في بداية التسعينيات عقب انتهاء حرب الخليج الأولى أملاً في أن يحصل من مفتشي الأمم المتحدة على شهادة تفيد بخلو بلاده من تلك الأسلحة. ولربما كان الرئيس يأمل في أن يعيد البدء في تلك البرامج في مرحلة لاحقة.
وقد كشف عالم عراقي لاحقاً عن أنهم كانوا قد تخلصوا من مركب قاتل كانت وكالات الاستخبارات الغربية قد قالت إنه مجهول الحيثيات، من خلال صبّه على الأرض. لكنهم فعلوا ذلك بالقرب من أحد قصور صدام حسين، وكانوا يخشون أن اعترافهم بتلك الحقيقة ربما كان سيؤدي إلى قتلهم من قبل الزعيم العراقي. نتيجة ذلك هو أن العراق لم يتمكن أبداً من إثبات أنه لم يعد يمتلك تلك الأسلحة.
بحلول نهاية عام 2002، كان مفتشو الأمم المتحدة قد عادوا إلى العراق للبحث عن أسلحة دمار شامل. تحدث بعض هؤلاء المحققين للمرة الأولى لـ بي بي سي. يتذكرون أنهم توجهوا للمواقع التي بلغهم من وكالات الاستخبارات الغربية أنها تضم مختبرات متنقلة، ليجدوا أنها مجرد شاحنات تشبه شاحنات الآيس كريم، تغطيها خيوط العناكب.
لم تعرف عامة الناس في ذلك الوقت أنه مع اقتراب الحرب، ومع إخفاق المصادر الاستخبارية في تقديم المعلومات التي وعدت بها، ومع عدم عثور المفتشين على شيء يذكر كانت هناك حالة من القلق والخوف. “مستقبلي بين يديك”، هكذا قال بلير لريتشارد ديرلاف في كانون الثاني 2003، مع تزايد الضغوط لتقديم دليل على وجود أسلحة دمار شامل.
يتذكر ديرلاف قائلا “كان شيئاً محبطاً آنذاك”، متهماً المفتشين بـ “عدم الكفاءة” لفشلهم في العثور على أي شيء. وصرح هانز بليكس الذي تزعّم فريق التفتيش عن الأسلحة الكيمياوية والبايولوجية التابع للأمم المتحدة لبي بي سي بأنه حتى بداية سنة 2003، كان مقتنعاً بوجود أسلحة، لكنه بدأ يشك في ذلك بعدما فشلت المعلومات الاستخبارية في الكشف عن أي شيء. كان يريد المزيد من الوقت للحصول على إجابات، لكنه لم يحصل على ذلك.
الإخفاق في العثور على “دليل دامغ” لم يحُل دون اندلاع الحرب التي بدأت في آذار/ مارس عام 2003.
يقول توني بلير “حاولت حتى اللحظة الأخيرة تفادي العمل العسكري”. وخشية من أن يفقد حليفه البريطاني التصويت في البرلمان عشية الحرب، أعطى الرئيس الأميركي، جورج بوش، بلير خلال مكالمة بالفيديو فرصة الانسحاب من الغزو، على أن يؤدي دوراً في وقت لاحق، لكن رئيس الوزراء رفض.
اشترك بلير في جريمة الغزو رغم معرفته بأكاذيب بوش حرصاً على علاقتهما الشخصية.
دافع بلير عن قراره بوصفه مسألة مبدأ، فيما يتعلق بالحاجة إلى التعامل مع صدام حسين، وأيضا الحاجة إلى الإبقاء على علاقات المملكة المتحدة الوثيقة بأميركا.
يقول “كان [الانسحاب] سيكون له تأثير هائل على العلاقات”، مضيفاً “عندما كنت رئيساً للوزراء، لم يكن هناك أدنى شك سواء خلال عهد الرئيس بيل كلينتون أو عهد الرئيس بوش، حول من هو أول شخص يرفع الرئيس الأميركي سماعة الهاتف للاتصال به. إنه رئيس الوزراء البريطاني. والآن وها نحن قد أصبحنا خارج أوروبا، فهل سيكون ريشي سوناك أول شخص يتصل به جو بايدن؟ لست متأكدا”.
لكن لم يتم العثور على أسلحة دمار شامل بعد الحرب.
“لقد انهار كل شيء”، على حد قول ضابط سابق بجهاز أم آي 6، والذي تذكر إجراء مراجعة داخلية للمصادر في أعقاب انتهاء الحرب. وكان لذلك عواقب واسعة النطاق ومستمرة على كل من مسؤولي الاستخبارات والساسة على حد سواء
المصدر :المخابرات الأميركية: كنا سنغزو العراق حتى لو كان بحوزته مشبك ورق فقط – وجهات نظر (wijhat.org)