حرية الفكر وعبودية الجسد: بشار بن برد
نعيمة عبد الجواد
على مدار العصور والأزمنة، يجابه الإنسان أزمات عسيرة، وأشدها تلك التي يخوضها مع نفسه؛ فهو راغب في الانتماء وراغب عن كبح جماح رغباته، في الوقت نفسه، تكبله القيود التي يفرضها عليه المجتمع وتزيد من سطوتها القوانين. ومهما بلغت جرأة وحرية الفرد، لا بد من الاصطدام يوما بمن يتربص به ويحسده على حريته في التعبير.
وبنظرة فاحصة للعصر العباسي في عصوره الثلاثة، يلاحظ أن حرية الفكر – مهما بلغت من جرأة – كانت ظاهرية وليست أصيلة، بل كان يحميها ولاة الأمور ما دامت تخدم مصالحهم، علما بأنهم لن يتورَّعوا عن الإطاحة بمن يستظلون بحماهم حينما يصبح دورهم ليس ذا نفع، حتى لو كانوا من أقرب المقربين. ويذكر التاريخ النهايات الوحشية والمؤسفة التي منّي بها ابن المقفع وابن الرومي. أما ما حدث للشاعر بشَّار بن برد في مهد الخلافة العباسية، أوضح ملامح الحكم في الدولة العباسية في عصورها الثلاثة، ورسم لها صورة جعل منها النموذج المبدئي لـ»محاكم التفتيش» التي ظهرت بعد ذلك بأكثر من نحو مئة سنة في إسبانيا.
كانت طبقة الشعراء والأدباء في العصر العباسي ذات طبيعة خاصة؛ كان يستقبلهم ولاة الأمور ويقربونهم منهم، ويجزلون لهم العطاء، ليس فقط للاستمتاع بقصائد المدح، لكن أيضا ليصبحوا البوق الإعلامي للسلطات. وفي المقابل، تحمي السلطات ما ابتلوا به من مجون داعر وشهوانية. أما من لم يشتغلوا بالمديح، فكان الهجاء سبيلهم لتحقيق أمنية الثراء؛ حينما كان يدفع لهم الأثرياء من أجل تلافي بذاءة لسانهم. ومن الجدير بالذكر أن العباسيين قربوا لهم الموالي ذوي الأصول الفارسية وغيرها، وهذا ليس من أجل المساواة وتحقيق الدمج بين الشعوب المختلفة، لكن لتحقيق أكبر قدر من المصلحة من تلك العناصر، دون تكبد القلاقل، التي احتدمت في العصر العباسي، وتمثلت في شكل الفخر بأصول المرء غير العربية، وسميت تلك الحركة بالشعوبية، أو كما نسميها حاليًا بـ»النزعة العرقية». ومن المدهش أن تجتمع تلك الصفات قاطبة في شخص واحد، بنى له هيبة شاعر المدح المقرَّب للخليفة، ومخافة الشاعر البارع في الهجاء، وسمعة الماجن الغارق في الملذات، وكذلك منيّ بالحقد لما وصل له من مكانة، وقُتِل كأديب بارع أطاح به الحاكم الغاشم. وهذا الشخص هو الشاعر الماجن بشار بن برد (714- 784م) الذي كان آخر من يُحْتَجْ به أو يهملونه، ذاك الفارسي الذي كان يكره العرب حتى صار من أعلام الشعوبية. ومن الجدير بالذكر أن بشار بن برد، شاعر مخضرم؛ عاصر الدولة الأموية وبعدها الدولة العباسية، وعلى الرغم من الأحكام القاسية التي يطلقها المؤرخون عليه، سواء على شخصه أو شعره الذي قيل عنه، لم يعرف غزله للعذرية طريقا، وأغلق كل السبل للعفَّة، لكنه واحد من المجددين البارزين في حركة الشعر في العصر العباسي، على وجه الخصوص، وفي حركة الشعر العربي بأكمله، على وجه العموم.
أمَّا الركيزة الأخرى التي شكلت وجدانه هو أن نبوغه في قول الشعر وهو في السابعة من عمره، ما جعل أمه تصطحبه معها في مجالس النساء، خاصة أنه أعمى، لكنه أيضًا مفرط الذكاء، ما جعله يستمع لأحاديث النساء ويعلم منهن أشياء عن عالمهن لا يفقه عنها الرجال شيئا.
يذكر أن بشار بن برد ولد أعمى، وفي بعض الروايات يُقال إنه ولد مبصرا ثم أصيب بالعمى، إلَّا أن لديه قدرة لا يماريه فيها أحد وهي، تصوير الموجودات حسيا وكأنه يراها بعينين مبصرتين، ثم يأتي بتشبيهات وصور بيانية معقدة ومتداخلة التركيب، لكنها بديعة. ففي قوله:
«يا ليلتي تزداد نكرا… من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إليك سقت… ك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها … قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها … هاروت ينفث فيه سحرا»
ومن يقرأ سيرته يعلم أن شخصيته تشكلت تبعا لركيزتين، أولاهما نسبه، فقد كان جده أحد أسرى القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة، أهداه لزوجته فصار عبدا لديها، والتي بالتالي أهدته إلى سيدة عقيلية وأنجب العبد ولدا أهدته العقيلية إلى سيدة فارسية ثرية، لكنها كانت دميمة. فاستولدت منه بشار الذي ورث دمامتها. وقد أعتقت السيدة والد بشار وولدها حتى يشب صغيرها حرا. لكن عبودية نسبه كانت تلاحقه، ما سبب له شعورا بالنقص وجعلته متطرف السلوك؛ فقد كان يدافع بتعصب شديد عن نسبه الفارسي، وفي الوقت نفسه يحتقر الجنس العربي في أشعاره وحياته.
أمَّا الركيزة الأخرى التي شكلت وجدانه هو أن نبوغه في قول الشعر وهو في السابعة من عمره، ما جعل أمه تصطحبه معها في مجالس النساء، خاصة أنه أعمى، لكنه أيضًا مفرط الذكاء، ما جعله يستمع لأحاديث النساء ويعلم منهن أشياء عن عالمهن لا يفقه عنها الرجال شيئا. ولهذا، نمت سريعا عاطفته الحسية، وصار شديد الشهوانية قبل أن يبلغ العاشرة من عمره. وبسبب نشأته في البصرة، تعلم اللغة العربية من العرب. وكانت لديه شهوة الشهرة منذ الصغر، ولهذا حاول أن يتقن الشعر بكل الوسائل، لدرجة أنه رحل إلى أهل البادية وتعلم شعرهم ولغتهم حتى تنمو مخيلته الشعرية. لكن الشعور بالنقمة على المجتمع الذي جعل منه عبدا ابن عبد وجده عبدا أزجى لديه فن الهجاء، الذي جعله يهجو حتى من ينصحه أو يساعده. وبراعته في هذا اللون كانت السبب في شهرته، وكان الناس يستأنسون بأشعاره، ويستفيدون بما برع فيه من منطق علمي وفلسفي يضفيه على شعره. وكان من المعتزلة حتى انقلب عليهم وآثر الانضمام للزنادقة والتوكيد على نشر أفكارهم.
واشتهر حتى وصل صيته إلى الخليفة العباسي «المهدي» فقربه إلى مجلسه وتغاضى عن سلوكه السيئ الذي لا يخشى أن يظهره حتى أمام كبار رجال الدولة. فعلى سبيل المثال، حينما كان يتأهب لقول الشعر كان يلتفت يمينا ويسارا ويبصق في كل جانب يلتفت له، ثم ينطلق في قول الشعر، وقد سأله البعض عن سبب إصراره على الهجاء، فرد أنه إذا لم يأخذ العطايا لمدحه، فإنهم سوف يجزلون له العطاء مخافة هجائه.
وكانت نزعته الشعوبية والتزامه بدين الخوارج جعلته ينقلب على الإسلام ويسلم نفسه للإغراق في الزندقة للتوكيد على حرية فكره، ولم يكن ليعترضه أحد، حتى قام بهجاء الخليفة المهدي، فضخم الأمور الواشون. فأمر المهدي بجلده سبعين جلدة مات على إثرها. لقد طغى على بشار بن برد الشعور بعبودية جسده، على الرغم من أن أمه قد اعتقته، ولهذا كان إصراره على التوكيد على حرية روحه حتى لو تمثل ذلك في اعتناق مذاهب وفلسفات متطرفة، أو الإصرار على المبالغة في الهجاء وإظهار العداوة للعرب الذين دمغوه هو وعائلته بالعبودية.
كاتبة مصرية