ثقافة وفنون

أُذن ترامب ومزمور أمريكا الصهيونية

أُذن ترامب ومزمور أمريكا الصهيونية

صبحي حديدي

على ذمّة صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، كانت فئة الحاخامات وقادة التيارات المسيحية الإنجيلية/ الصهيونية الأمريكية في طليعة المبادرين إلى الصلاة، وعلى نحو مشترك عجيب، من أجل سلامة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في أعقاب محاولة اغتياله خلال تجمّع انتخابي. ورغم أنّ أذن ترامب هي الجزء الوحيد الجريح من جسمه، كما اتضح، فإنّ الصلوات ذهبت كلّ مذهب في التأويل؛ ابتداء من وقوع معجزة سماوية تكفلت بإنقاذ حياته، وليس انتهاءً بتدخّل الرعاية الإلهية لإحباط مؤامرة شيطانية شريرة لا تستهدف ترامب الشخص بقدر مواقفه وموقعه في “روح” أمريكا.
ليس عسيراً، في المقابل، إدراك السبب الذي دفع الحاخام إسحق باتزري، الزعيم السفارديمي ونجل الحاخام الكابالي البارز دافيد باتزاري؛ إلى اقتباس المزمور 130 على وجه التحديد، من دون 151 مزموراً يضمها السفر التوراتي؛ حتى إذا كانت الصلة واهية، من حيث الشكل على الأقلّ، بين أذن ترامب الجريحة، وما يهتف به المزمور في الختام: “لِيَرجُ إسرائيلُ الربّ، لأنّ عند الربّ الرحمة وعنده فدى كثير/ وهو يفدي إسرائيل من كلّ آثامه”. ولسوف يبطل أيّ عجب لدى تغريدة الحاخام التي وصف فيها ترامب بأنه “عاشق إسرائيل”؛ فكيف لا يستحقّ ذلك المزمور تحديداً.
واعظون وقساوسة ورجال دين يمثلون هذا أو ذاك من التيارات المسيحية الإنجيلية ذات التوجّه الصهيوني، بالمعنى الحرفي وليس التوصيفي للتسمية؛ سارعوا بدورهم إلى طلب الصلاة من أجل شفاء ترامب السريع. وكان في طليعتهم القسّ جون هاجي راعي الطوائف الهاجية المنسوبة إليه بالطبع، الذي ألحّ في تغريداته على أنه لا يصلّي من أجل ترامب فقط، بل من أجل أمريكا بأسرها. من جانبه، افترض القس جوني موور أنّ الربّ لم ينقذ ترامب من الرصاصات الطائشة إلا لأنه شاء إنقاذ أمريكا من شرور الشياطين.
لا جديد، حقاً، في هذه الهستيريا الإنجيلية/ الصهيونية حول شخص ترامب وشخصيته، وللمرء أن يكتفي بربط هذا الحاضر بماضي الحملة الأولى للرئيس الأمريكي السابق كي يتلاشى أيّ مقدار من عسر الإدراك العلاقة بين أُذن ترامب والمزمور 130. وكانت مجموعات من هؤلاء، ويستوي أن تكون مسيحية التديّن أم يهودية، قد اعتبرت أنّ انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة “معجزة إلهية”، وهو بالتالي أقرب إلى تمثيل “المخلّص المنتظر”؛ وذاك خلاص لن يشمل الروح وحدها، بل كذلك… السماح بتهويد يهودا والسامرة (الصفة الغربية والقدس المحتلة).
فإذا انتقل المرء إلى أمريكا ذاتها، وإلى المجموعات المسيحية المتشددة، في صفوف البيض تحديداً (وهم أمضى أسلحة الحزب الجمهوري، في مواسم الانتخابات خصوصاً)؛ فإنّ المعطيات أكدت أنّ غالبية ساحقة من هؤلاء اختاروا ترامب، بل خاضوا معارك شرسة “من باب إلى باب” كما يُقال، لدعم حملته وتسهيل انتخابه. ورغم الارتياب في حقيقة إيمان ترامب، من زاوية دينية مسيحية، فإنّ 80% من الناخبين الإنجيليين البيض صوتوا له، مقابل 15% من الإنجيليين السود والهسبان. وكما هو معروف، انبثقت الحركات الإنجيلية في أواسط القرن العشرين، وبدت غير مكترثة بالسياسة والتحزب، حتى اجتذبتها إلى المعمعة قوانين تشريع الإجهاض، مثلاً؛ وكانت سنة انتخاب جيمي كارتر، “المتدين” و”الورع” كما صُوّر يومئذ، بمثابة الذروة في التنشيط السياسي للحركات الإنجيلية.
طريف، في المقابل، أنّ هذه الشرائح تتلاقى مع الشرائح اليهودية المتدينة في دولة الاحتلال ذاتها، حول سلسلة من التفسيرات الفقهية، توراتية المنابع؛ حتى إذا ظلّت قاصرة في التفسير أو مفرطة في التأويل. ثمة هنا نظرية متكاملة (جرى التبشير بها ابتداء من القرن الثامن عشر)، تقول بعودة يسوع إلى عالمنا هذا لتخليصه من الشرور؛ وذلك حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيلية، ثمّ نجاحها في احتلال كامل “أرض التوراة”، أي معظم الشرق الأوسط؛ وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى؛ وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ الدولة الإسرائيلية، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون (دون سواه!)، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص!
وكما هو معروف، هنالك سلسلة ولايات أمريكية تُلقّب بـ”حزام التوراة”، نسبة إلى شدّة تديّن أبنائها. وثمة شبح يجوس ليالي ونهارات كبار ممثّلي الحزب الجمهوري، خاصة حين تأزف مواعيد انتخابات الكونغرس أو الانتخابات الرئاسية؛ متخذاً هيئة كابوس يحمل الويل والثبور عند البعض، أو هيئة ملاك حارس يحمل البشرى والسند عند البعض الآخر. أحد أشهر هؤلاء كان ماريون غوردون (بات) روبرتسون، المؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة “التحالف المسيحي”، أكثر الحركات الدينية القاعدية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة؛ والذي ذهب إلى حدّ وضع ترامب في مصافّ يسوع، وأبصره ذات رؤيا “جالساً على يمين الربّ مباشرة”.
وقد يكون مرجحاً أنّ أياً من دعاة الصلاة لشفاء ترامب قد تناهت إلى أسماعه أخبار عشرات الضحايا خلال المجزرة الإسرائيلية في المواصي، وقبلها شتى صنوف المجازر وجرائم الحرب؛ أو أنّ مَنْ كان بينهم قد سمع ببعضها، فلعلّه فسّرها في سياق أرماغيدوني، أو ضمن معجزات سماوية لا تقع إلا لراحة نفس… جيش الاحتلال!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب