ثقافة وفنون
إضاءة على كتاب رجال ومواقف وعلى مؤلفه يوسف قرقوط بقلم الدكتور رياض العيسمي
بقلم الدكتور رياض العيسمي

إضاءة على كتاب رجال ومواقف وعلى مؤلفه يوسف قرقوط
بقلم الدكتور رياض العيسمي
جزء-١
كنت انتظر بفارغ الصبر الحصول على كتاب رجال ومواقف لمؤلفه المرحوم أبو زياد يوسف قرقوط. حيث أنني كنت أعرف حق المعرفة بأن هذا الرجل لديه الكثير ما يقوله، وسيقوله بجرأة لا تخشى الخوف وصدق لا يقبل التأويل. وذلك لأنني عرفت المرحوم العم أبو زياد عن كثب عندما زارني في الولايات المتحدة في مطلع صيف عام ١٩٩٠ من القرن الماضي. وكانت معرفتي به قبل ذلك معرفة عامة وعندما كنت في المدرسة الإعدادية والثانوية في دمشق في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي . وكنت اعرف بأننا أهل مقربين منذ عهد السلف. وكثيرا ما كان يتردد على مسامعي وأنا طفل من جدي لأبي أبو علي سليمان العيسمي عبارة عمي حامد قرقوط عندما يتحدث عن علاقتنا بهم. وحامد قرقوط يكاد يكون الشخصية المحورية في هذا الكتاب. وهو الذي اعتبره المؤلف أبو زياد مثله الأعلى وقدوته الحسنة. حتى وأني لحسبته في عدة مواقع في الكتاب يتمنى لو أنه يستطيع تقمص شخصيته. كما وتحدث المؤلف بإسهاب ولهفة عن شخصية ومواقف عمه الثاني أسد البطولية والجريئة . والذي كان عليه رفع راية أخيه حامد قرقوط بعد استشهاده في معركة أبو زريق عام ١٩٢٧ ضد الجيش الفرنسي أثناء الثورة السورية الكبرى.
في كتاب يقع في ثلاثمائة صفحة وملحق للصور، تحدث المؤلف عن عدة شخصيات مهمة شاركت في الأحداث التاريخية، ليس في الثورة السورية الكبرى وحسب، وانما على امتداد التاريخ الوطني لسورية ومنذ انطلاق المقاومة ضد الاحتلال العثماني في نهاية القرن التاسع عشر ولغاية حرب تشرين عام ١٩٧٣ ضد العدو الصهيونى. وفي مقدمة الكتاب، أفرد المؤلف توصيفا تفصيليا لطفولته وحياته الشخصية، والذي لا تقاس أهميته بعدد الكلمات أو السطور، بل بالمعالجة الوجدانية التي عايشها الكاتب بنفسه وليشاركها مع القارئ . ومن أهمها وفاة والده يوسف وأمه ما تزال حاملا به. وفور ولادته سمي يوسف على اسم أبيه. ولم تمض فترة قصيرة على ولادته حتى تزوجت والدته وتركته في رعاية وأمومة عمته ميثا، والتي لم يترك المؤلف فرصة مواتية في الكتاب لعودة الحديث عنها بالحب والاحترام والإجلال. وحتى بأنه ضمن اسمها في قائمة الإهداء في مطلع الكتاب إلى جانب والده الذي لم يره في حياته قط. حيث يقول في الإهداء: “أهدي هذا الكتاب إلى شهداء الأمة العربية جميعا، وإلى روح والدي الشهيد الذي لم يرني، وإلى أرواح والدتي وأخي حمد وعمتي ميثا الحنون.” ومن خلال ما قدم المؤلف عمته ميثا في مواقع ومواقف، يستنتج القارئ وبسهولة بأنها هي ليست عمة حنون وأم له وحسب، بل وامرأة بألف رجل. وذلك من خلال مشاركتها اليومية لأخويها حامد وأسد اثناء معارك الثورة السورية الكبرى في الجبل. وكذلك في مواقع النزوح في الأردن ووادي السرحان في السعودية. وأيضا يروي قصة المهمة الجريئة والدقيقة التي كلفها بها أخوها، عمه أسد، لتحرير الثوار، عن طريق توسيط مطران لبناني، وهو في سجن القلعة في الحميدية مع مجموعة كبيرة من الثوار بعد ان أضطروا في النهاية للتسليم في معركة كانت غير متكافئة بالعدد والعتاد، وأخذ فيها الثوار على حين غرة. ولهذا عرفت باسم واقعة أبو زريق وليس معركة أبو زريق. والتي جاءت ردا على معركة المزرعة التي كبد فيها الثوار الجيش الفرنسي خسائر فادحة بالعدة والعتاد. فما كان من جيش المحتل الفرنسي بقيادة القائد دزدريا خديعة الثوار واستدراجهم إلى سفح تل اللوز قرب بحيرة أبو زريق ونصب مدافعة على قمة التل لتمطر الثوار بالقنابل وتلاحقهم بوابل من النيران.
في الصفحة ٩٤-٩٥، من الفصل الثاني، يروي يوسف قرقوط تحت عنوان استشهاد حامد قرقوط: “في معركة أبو زريق عام ١٩٢٧ كان أبو سعيد حامد قرقوط بالقرب من المجاهد علي الأطرش( أخو سلطان) وأدرك بأن العسكر الفرنسيون يطوقون الثوار ، فصاح عمي حامد “انسحب يا علي ! فقد طوقنا الفرنسيون من كل جانب وشباب بني معروف لا ينسحبون قبل أن تنسحب.” انسحب علي الأطرش واستمر أبو سعيد حامد بإطلاق النار إلى ان فرغت ذخيرته فأصابته رصاصة في فخذه. حاول الوقوف ولكنه لم يستطع. فوقع أرضا وكسر ت بندقيته الألمانية. فقيل للقائد الفرنسي دزدريا أن حامد قرقوط سقط في أرض المعركة. فأسرع شاهرا مسدسه وأطلق التار على رأس عمي حامد ثلاث طلقات وضعت خاتمة لحياة رجل شهم كريم شجاع وضع كل إمكانياته في سبيل الثورة وانتصارها.” ورواية أبو زياد هذه لاستشهاد عمه حامد قرقوط في معركة أبو زريق تطابقت مع رواية الشهيد الذي بعث حيا في هذه المعركة، جدي لأبي أبو علي سليمان العيسمي، الملقب بعواد الحمد. الذي روى بأنه كان بجانب حامد قرقوط عندما أصيب وسمع إطلاق النار عليه قبل أن يصاب هو بشظايا قذيفة مدفع ويخر فاقدا للوعي وسقط تحت حصانه الذي قطعت شظايا القذيفة رقبته. واعتبره الجنود الفرنسيين قد قضى ولم يردن خسارة طلقة واحدة عليه كما فعلوا مع رفاقه الثوار الجرحى ومنهم حامد قرقوط الذي انتقم الفرنسيون منه بثلاث طلقات. وكنت قد دونت تفاصيل هذه القصة في رواية سيرتي الذاتية “الأجيال لا تموت” تحت عنوان الشهيد الذي بعث حيا. وشرحت فيها كيف عاد رفيق جدي الثائر سلمان الجبر ليدفنه في أرض المعركة في أبو زريق كما يستحق. وذلك بعد ان علم باستشهاده من ثائر آخر تمكن في لحظتها من الانسحاب. وكانت المفاجأة عندما امسك سلمان الجبر بيد جدي ليسحبه من تحت حصانه الصريع ليجد النبض مازال يجري بطيئا في عروقه. فأنقذه. وعاش سلمان الجبر ليروي هذه القصة وعاش جدي الشهيد الذي بعث حيا ليروي قصة إصابته في معركة أبو زريق ويؤكد إعدام الثائر حامد قرقوط الجريح بدماء باردة من قبل الفرنسيين على أرض أبو زريق كما ذكر أبو زياد في كتابه.
وفي صفحة ١٠٠ من الكتاب، تحت عنوان الأسد الجريح وشهامة فارس أبو مغضب، يروي المؤلف: “رأى عمي أسد إثناء معركة أبو زريق عام ١٩٢٧ فرس أخيه حامد (البضاء العالية) تركض لوحدها فخمن بأن خطبا ما قد أصاب أخيه. فعاد ليفتش عنه فصادف مجموعة عسكرية يقودها الضابط الكابتن (سلمان ش) وكان متطوعا في الجيش الفرنسي. فقام أحد أفراد المجموعة بإطلاق النار على عمي أسد. فقتل فرسه ثم أصابه في فخذه فسقط أرضا. تقدم منه الضابط وكان يعرفه وقال له “استسلم يا أسد بوجهه سلمان ش ، وأجابه عمي: خسئت لن استسلم إلا بوجه قائد الحملة الفرنسي فهو أشرف منك.”
ويستشهد الكاتب في هذا الكتاب بمذكرات الجنرالات الفرنسيين أمثال كابريه وساراي. ومذكرات قادة الثورة أمثال القائد سلطان الأطرش وعلي عبيد. كما ويستند الكتاب إلى الكثير من كتابات المؤرخين والمفكرين الذين كتبوا عن الثورة أمثال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وعادل أرسلان ومنير الريس ومحي الدين السفرجلاني وكثيرون غيرهم كتبو ا عن الاحداث على مدى فترات زمنية متعاقبة.
كتاب رجال ومواقف يحتوي على كم هائل من المعلومات. وتزاحمت فيه أسماء الرجال والنساء الذين سجلوا مواقف البطولة على أرض الجبل وهم يقارعون بامكانياتهم المتواضعة وهممهم العالية قوة المستعمر الفرنسي المدجج بالسلاح والمعدات. وكذلك يحتوي على قصص التضحيات الوطنية التي سطرها الوطنيون الشرفاء على امتداد التراب السوري عبر حقب متتالية لقوى استعمارية غاشمة من عثمانيون وفرنسيون وصهاينة. ومؤلف الكتاب يوسف قرقوط كان رجلا من خيرة الرجال. وتميزت مواقفه بمواقف الأبطال، ليس على صعيد مقارعة الاعداء والدفاع عن الوطن وحسب، وانما على الصعيد الشخصي والإنساني. ونحن كعائلة نشهد له بذلك عندما وقف بجانب عائلتنا عندما سجن والدي شكيب العيسمي في سجن المزة في مطلع عام ١٩٧٦ على أثر دخول الجيش السوري الى لبنان. وبقيت العائلة فترة لا تعرف عنه شيئا. وإلى ان تدخل العم أبو زياد. واستطاع بمواقفه الجريئة والحكيمة أن ينتزع من الجهة الأمنية التي اعتقلته ودوائر النظام المختصة المعلومات عنه. كما وحصل لوالدتي على إذن بحق الزيارة الأسبوعية له في السجن. وبقي المرحوم أبو زياد يرافق والدتي واحد إخواني في زيارتهم الإسبوعية لوالدي على مدى أكثر من ستة أشهر، وإلى أن أفرج عنه. وكان في كل زيارة ينتظر العم أبو زياد على مدخل السجن حتي تنتهي الزيارة ويرافقهم عائدا معهم إلى البيت.
لم يكن المرحوم يوسف قرقوط رجلا صاحب موقف وحسب، بل كان حر الطبع وواضح الطبيعة ونقي الطوية والسريرة. وكان صاحب رأي سديد ويمتلك رؤية ثاقبة في قراءة المستقبل فاقت قدرات المتخصصين. واذكر مرة عندما كان في زيارتي، وهذه شهادة بحقة أقدمها للتاريخ، بأنه كان يخشى من دخول الرئيس صدام حسين بقواته إلى الكويت. وذلك عندما بدأ التحشيد على الحدود في مطلع ذلك الصيف. وكان يقول لي “بأن الكويت هي واجهة لخزينة مليئة بالذهب والمجوهرات وحاميها حراميها. ولن يسمح هذا الحرامي لأحد كان من كان أن يقترب منها.” مضت الأيام وعاد العم أبو زياد إلى سورية. وبالفعل اجتاح الجيش العراقي الكويت في ٢ آب ١٩٩٠ بأمر من الرئيس صدام حسين في حينها. فكتبت رسالة للعم أبو زياد في محاولة مني استنباط رأيه في الموضوع وخاصة بعد النقاش اليومي والمداولات التي كانت تدور بيننا بخصوصه. ومن ضمن ما كتبت له مازحا “حلق جارك بل إنت” وهي عبارة شعبية تستخدم عندما يكون الدور قادم على الجميع، وأحداً تلو الآخر. ولم يتأخر رد العم أبو زياد طويلا. فوصلتني منه رسالة مقتضبة هذه المرة بعكس الرسائل التي سبقتها. وكانت عبارة عن جملة واحدة طويلة ومتصلة قال فيها: ” إلى ولدنا الحبيب الدكتور رياض ابن الشكيب. حلاقك يا ولدي أرعن. وعما قريب ستخلو دكانه من الزبائن. وسيترك وحيدا ليلقى مصيره المحتوم. وسينتهي بعد أن يكون قد جلب لنفسه وللعراق الويل والدمار.”
كم كنت أتمنى لو تكون بيننا اليوم أيها العم أبو زياد لتنبئنا بمصير هذا العالم المضطرب. رحمك الله وطيب ثراك. وستبقى بيننا حيا بمواقفك ورأيك السديد ورؤيتك الثاقبة.