
ماما افريقيا: ميريام ماكيبا وموسيقى الحرية

مروة صلاح متولي
يرتبط اسم المطربة الجنوب افريقية الراحلة ميريام ماكيبا بتاريخ فني كبير، ورحلة طويلة من النضال في سبيل الحرية ومناهضة التمييز العنصري، والدفاع عن قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. استطاعت ماكيبا في زمن سطوة نظام الأبارتيد في جنوب افريقيا أن تصنع اسماً فنياً كبيراً، وأن تحقق شهرة واسعة تخطت الآفاق، وامتدت إلى خارج حدود القارة السمراء، وانطلقت نحو أمريكا وأوروبا حاملة موسيقى قومها وبلادها وثقافتها الافريقية لتقدمها في كل مكان، وكانت في الوقت نفسه تحمل قضية الشعب الأسود في جنوب افريقيا، الذي كان يتعرض لأبشع جرائم العنصرية، والعديد من الأمور والصور المنحطة إنسانياً وأخلاقياً. على نحو ما اجتمعت عوامل الزمان والمكان مع العوامل السياسية والعوامل الفنية بطبيعة الحال، لتصنع من ميريام ماكيبا أيقونة موسيقية نسائية افريقية، صارت رمزاً لكفاح شعوب افريقيا وسيرها الطويل في طريق الحرية، وبات صوت ماكيبا ونغمات وإيقاعات أغانيها مقترناً بزمن حركات التحرر الافريقية.
من جوهانسبرغ إلى العالم
ولدت ميريام ماكيبا في مدينة جوهانسبرغ سنة 1932، وكانت لغتها الأم وفق انتمائها القبلي هي لغة Xhosa، لكنها كانت تغني بعدة لغات افريقية أخرى إلى جانب لغتها الأم وبلغات أجنبية أيضاً، كما غنت باللغة العربية في الجزائر أغنية بعنوان «أنا حرة في الجزائر» تقول كلماتها: «أنا حرة في الجزائر.. انتهى عصر العبيد.. أنا حرة في الجزائر.. وطني الأم السعيد.. وطني المفدى الطاهر.. أنا حرة في الجزائر». عاشت أيقونة الغناء الافريقي طفولة قاسية بسبب موت الأب المبكر وسجن الأم، وبدأت العمل منذ أن كانت في سن صغيرة، ثم اهتدت إلى موهبتها الغنائية، وسارت في طريق الفن منذ خمسينيات القرن الماضي، وأخذت تغني مع بعض الفرق الموسيقية حتى أصبحت من أبرز الأسماء الافريقية في مجال الغناء واشتهرت بلقب «ماما افريقيا».
كانت ميريام ماكيبا تغني وتؤلف الأغاني وتمثل أحياناً، وتلحن وتقدم موسيقى الجاز والبوب الافريقي، كما كانت تقدم بعض الأعمال التقليدية المرتبطة بثقافتها الافريقية العميقة، وقد استمرت في مسيرتها الفنية المزدهرة حتى وفاتها في إيطاليا عام 2008. سافرت ماكيبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وسجلت بعض الألبومات الموسيقية هناك، ثم منعتها حكومة الأقلية البيضاء من العودة إلى جنوب افريقيا، وأثناء وجودها في الولايات المتحدة الأمريكية انضمت إلى حركة الحقوق المدنية، وتزوجت من السياسي اليساري الأمريكي ستوكلي كارمايكل، فألغت الولايات المتحدة الأمريكية إقامتها واضطرت إلى المغادرة، وذهبت مع زوجها إلى غينيا التي أقامت فيها لعدة سنوات، وغنت لها مجموعة من الأغاني، ومن غينيا انطلقت تغني في دول افريقية أخرى منها كينيا وأنغولا، وزامبيا وتانجنيقا، وموزمبيق وزائير وغانا.
من ضمن ما كانت تتناوله ميريام ماكيبا في أغانيها، الحياة اليومية للسود في تجمعاتهم السكنية، والأماكن التي خصصت لهم، وتم حصر وجودهم في داخلها من أجل فصلهم عن المجتمع الأبيض الذي يمثل الأقلية في جنوب افريقيا، وما كان يجري من عمليات هدم الأحياء السكنية الخاصة بالسود في مدينة جوهانسبرغ من أجل إقامة مناطق سكنية للبيض فقط. بالإضافة إلى الأغاني التقليدية التي تعكس جوانب مختلفة من الثقافة الجنوب افريقية، كبعض الرقصات الشعبية على سبيل المثال، أو الأغاني المرتبطة بمناسبات اجتماعية معينة كأغاني الزفاف مثلاً، وغيرها من أغاني الأعياد والاحتفالات. وكانت هذه المواضيع وغيرها تترافق مع الموسيقى الفريدة التي كانت تقدمها ميريام ماكيبا، بما فيها من إيقاع افريقي خالص ونقرات مميزة. ومن أشهر أغنيات ماكيبا «باتا باتا» «سويتو بلوز» «ميدو لاند» «مالايكا» وأغنية Qongqothwane.
حصلت ميريام ماكيبا أثناء حياتها على تقدير دولي كبير فنياً وسياسياً، ونالت عدة جوائز موسيقية عالمية، ونعاها نيلسون مانديلا بعد وفاتها قائلاً، إن أغانيها كانت تبث الأمل خلال الأوقات العصيبة. بعد أن قامت حكومة الأقلية البيضاء في جنوب افريقيا بإلغاء جواز سفر ميريام ماكيبا الجنوب افريقي، حصلت المطربة الراحلة على مجموعة كبيرة من جوازات السفر الأخرى، وقامت عدة دول بمنحها جنسيتها ومواطنتها، من بين هذه الدول كانت غينيا وغانا والجزائر وبلجيكا. ولم تعد ميريام ماكيبا إلى جنوب افريقيا إلا عام 1990 مع بدايات تفكك نظام الفصل العنصري هناك. أطلقت ماما افريقيا مجموعة كبيرة من الألبومات الموسيقية الناجحة، كان بعضها أثناء وجودها في الولايات المتحدة الأمريكية وخلال فترات الاغتراب عن وطنها، وكانت طوال مسيرتها الفنية صوتاً يعبر عن الاحتجاج على كل ما كان يقع في حق السود في جنوب افريقيا، ويفضح جرائم البيض التي لم تكن تخفى على أحد، وكانت ترتكب أمام الجميع على مرأى ومسمع من العالم كله. وقد لعبت ميريام ماكيبا دوراً كبيراً في إلقاء الضوء على قضية شعبها وبلادها، وحشد التأييد الإنساني العالمي ضد العنصرية والأبارتيد، كما كان لأغانيها الأثر في رفع الروح المعنوية للشعب الجنوب افريقي، وتشجيعه ودعمه في نضاله ومقاومته، ووقوفه في وجه سياسات الأقلية البيضاء والتمييز والفصل العنصري.
وكذلك مثلت ماكيبا ظاهرة فنية مهمة أشعت في عدة دول افريقية أخرى، حيث كانت أغانيها دفعة قوية داعمة لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار والديكتاتوريات، في الدول التي كانت تعاني من القهر والفقر والاستعباد والتمييز العنصري، بالإضافة إلى رفع الوعي والتبصير بتلك القضايا الإنسانية العادلة، وخلق حالة من التعاطف والتضامن بين الشعوب الافريقية أو الشعوب المظلومة عامة في أي مكان، كما كان لما قامت به ميريام ماكيبا من تصوير لنضال شعب جنوب افريقيا أثر ملهم للشعوب الأخرى، ويحسب لها أيضاً أنها خلقت حالة من الفخر والاعتزاز بالهوية الافريقية، بنشرها للتراث الموسيقي الافريقي عبر العالم، والآلات الموسيقية التقليدية الافريقية، واللغات المختلفة والأنماط اللحنية وتقنيات الغناء، والتنغيم واللهجات القبلية، التي كانت تغني بها، ما يعني أنها قامت بنشر الفن الافريقي بألوانه المتعددة، وأبرزت الهوية الفنية والثقافية لجنوب افريقيا، خصوصاً الفنون التقليدية الأصلية النابعة من ذلك الشعب الذي كان مقهوراً، في وقت لم يكن يراد له أن يكون أو أن يعبر عن نفسه.
كاتبة مصرية