ثقافة وفنون

ذاكرة الطفولة في الشرق الأوسط: يوميات منسية

ذاكرة الطفولة في الشرق الأوسط: يوميات منسية

محمد تركي الربيعو

يلاحظ في السنوات الأخيرة، أن تاريخ الطفولة بات بمثابة مختبر لدراسة الاتصال بين العالمي والمحلي. فمن خلال التعليم وأفلام الكرتون وظهور الدولة وعالم الروضات (المدارس ما قبل الابتدائية)، أخذت تتشكل معان أخرى عن الطفولة والواقع المحيط بها. وعلى صعيد الشرق الأوسط، فإن الملاحظ هو زيادة الإصدارات حول هذه الذاكرة، وهو ما نراه في عدة عناوين مثل «الأطفال والطفولة في الدولة العثمانية»، الذي حاول فيه الباحثون تتبع تاريخ الطفل في المنطقة على مدى خمسة قرون. ولن تقتصر هذه القراءات على المؤرخين فقط، وإنما نلاحظ اهتماما من قبل مثقفين ومفكرين آخرين بهذا الجانب، كما في آخر إصدارات المفكر الإيراني حميد دباشي «طفولة إيرانية: إعادة التفكير في التاريخ والذاكرة»، إذ يبدو دباشي في مقدمة كتابه مدركا لأهمية هذا التاريخ في الكشف عن تفاصيل جديدة، لا تقتصر على ذات السارد فقط، وإنما على المحيط الذي عاش فيه، ولذلك يشير في مقدمة كتابه إلى هذه الفكرة بالقول، «وهناك أشياء سأخبرك بها عن التاريخ الإيراني».
وبالتالي نرى مع دباشي أن تاريخ الطفولة قد يكون بداية جيدة للتعرف على تواريخ أخرى، وهو ما يلمح له أيضا عند إسهابه في الحديث عن موضوع العلاقة بين تاريخ الطفولة وتاريخ الكولونيالية، فبحكم اهتمامات الرجل بدراسات ما بعد الكولونيالية، فقد وجد في مقال سابق له بعنوان «هل يستطيع غير الأوروبي التفكير»، أن هناك أكثر من أزمة تدور حول تواريخ البلدان الشرق الأوسطية عموما، الأولى تتعلق بوجود مدارس غربية كاملة، ما تزال تنظر للآخر كما يعتقد من منظور استشراقي، والثانية تتعلق بالمثقف الوطني، الذي أيضا يقرأ تاريخه من منظور ساخط، ويقع في سياق الرد على سياسات الغرب بتاريخ أيديولوجي، ولذلك يقترح دباشي مثلا أن يتم تجاوز كلتا النظريتين من خلال العودة للطفولة، أو كما يسميها بالمنبع، لكتابة تاريخ دنيوي أوسع، إن صح التعبير. ولعل في هذه الإشارة أيضا ما يعد انتقادا ضمنيا لزميله ومعلمه إدوارد سعيد، إذ بقي دباشي في السنوات الأخيرة يحاول إعادة النظر في نظريات نقد الاستشراق، وتجاوز سعيد، ولذلك ربما وجد أيضا في الطفولة مدخلا مهما، خاصة أن سعيد أيضا كان قد وجد في يوم ما في الطفولة مدخلا لتصفية حساباته مع الرجل الكولونيالي الأبيض، من خلال مذكراته «خارج المكان» التي ظهر فيها الطفل سعيد، وهو يعاني من هيمنة الثقافة الغربية في مدرسة فيكتوريا التي درس فيها في الإسكندرية، بينما يعتقد دباشي أن هذا التاريخ الطفولي قد يكون مناسبة جيدة للخروج من ثنائية الاستعمار/ الوطني.

ذاكرة الطفولة عربيا

وعلى الرغم من أن ساحة الإصدارات العربية بعيدة بعض الشيء عن هذه النقاشات، إلا أن ذلك لم يمنع من صدور عدد من الكتب التي أولت لذاكرة الطفولة اهتماما واسعا، بوصفه ذاكرة مستقلة عن ذاكرة الرجولة والكهولة. واللافت هنا ربما أن الساحة الثقافية السعودية، كانت من بين الساحات النشيطة في هذا الجانب، وهو ما بدا من خلال عدد من المذكرات مثل «سير طفولة فهد المارك» ومذكرات خلف سرحان القرشي «أمي ترضع عقربا»، التي رسم فيها صورة عن حياة الطفولة في الطائف خلال الستينيات، والحياة الاجتماعية التي كانت تحيط بها، قبل ظهور فترة الفورة النفطية، التي كانت لها أبعاد ايجابية على الطفولة السعودية نفسها. فبعد أن كانت الأمراض تودي بحياة عشرات الأطفال في الخمسينيات والستينيات، داخل عائلة السارد (القرشي) نرى أن تحسن واقع المشافي والطب قد ساهم في إنقاذ عشرات الأطفال.
ومما يسجل أيضا على الجهود العربية في هذا السياق، مشاركة بعض الروائيين في استعادة ذاكرة الطفولة، وهو ما نراه واضحاً في بعض روايات وترجمات الروائي السوري الكردي نزار آغري. ففي روايته «البحث عن عازار»، التي ترشحت للبوكر العربية، حاول رواية قصة طفولته في مدينة القامشلي، تقع شمال شرق سوريا، خلال السبعينيات، ما مكننا من استعادة تواريخ اجتماعية وثقافية غنية عن المدينة، تتعلق بعاداتها وطعامها ولباس أهلها ولهجاتهم، لكن ربما الأهم من ذلك بالنسبة لآغري، هو أن ذاكرة هذه الطفولة، قد مكنته من التذكير بتواريخ من التهميش الذي عانته أقليات عديدة، وفي مقدمتهم الإيزيديون الذين ينتمي لهم آغري. إذ ظل الإيزيديون في مدن الجزيرة السورية، أو شمال العراق يعانون من نظرة ازدرائية من المجتمع المحيط بهم، سواء العرب، أو الكرد، الذين وإن التقوا مع الإيزيديين في الجذور الإثنية، إلا أنهم ظلوا ينظرون لهم نظرة سلبية بسبب معتقداتهم الدينية، مقارنة بمعتقدات الكرد السنية، ولذلك نرى الطفل آغري وفي ظل هذا التهميش، لا يرى الأمان إلا برفقة طفل ينتمي لوسط يهودي. ولعل هذا الربط بين الطفولة وذاكرة التهميش، هي التي دفعت بآغري لاحقا، الى ترجمة عمل آخر يصب في الفكرة نفسها تقريبا. ففي سيرته «عبق الطفولة في سانت»، يروي لنا المؤرخ الراحل أفرام عيسى يوسف الحياة داخل قرية مسيحية في كردستان العراق. ومن خلال هذه الذكريات، نتعرف على تواريخ أخرى للمسيحيين في العراق. ففي الغالب عادة ما ربط المسيحيون (وبالأخص في الموصل وبغداد) بتاريخ المهن، بينما نرى في هذه القرية، عشرات العوائل المسيحية، وهي تعمل في تربية الماعز وصناعة الجبن والسمن، وأحيانا في زراعة الخضروات والتجارة بها. تقع قرية الشاب (سانت) بالقرب من الحدود مع تركيا، ولذلك نرى ذاكرته وهي مليئة بقصص الخوف من العصابات القادمة من تركيا، التي كانت تغزو القرية في الخمسينيات والستينيات وتنهب وتسرق المواشي. نكتشف أيضا من خلال ذاكرة أفرام أن الراديو قد دخل لبعض القرى في كردستان العراق، خلال الفترةنفسها، وهو ما مثل تحولا كبيرا في العلاقة بالعالم، فمن خلاله باتوا يسمعون عن أخبار وتفاصيل خارج قريتهم الصغيرة. كما نتعرف على التحولات التي عرفتها بعض القرى المسيحية، من خلال تحولها إلى الكاثوليكية، ومؤسسات الدولة العراقية وهي تتجه نحو الأطراف، وهو ما نراه من خلال درس اللغة العربية، الذي لم يكن أفرام قادرا على فهم أي شيء منه. إذ تبدو اللغة العربية هنا بمثابة الدخيل على عالم بعيد عنها، ولذلك نراها وهي ترتبط في ذاكرة هذا الشاب وأهل المنطقة عموما بالدولة والسلطة، وربما هذا ما يفسر لاحقا المواقف المتشنجة تجاه تدريسها، بعد تمكن الأكراد من الانفصال بالمنطقة في التسعينيات.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب