
التبعية والاستلاب في الرواية العربية

مصطفى عطية جمعة
لم تمر الرواية العربية بمراحل متتابعة مثل الرواية الغربية، التي ظهرت فيها أجيال متتالية امتدت لما يقارب أربعة قرون، يمكن رصد فتراتها الزمنية، والحكم عليها فنيا وفكريا، وتبيان ملامحها، من حقبة إلى أخرى، مثل حقبة الرواية التاريخية ثم الرومانسية، ثم روايات المغامرات والتسلية، ثم تيارات الواقعية النقدية والطبيعية والسريالية وغيرها. فكل تيار روائي أوروبي استغرق ردحا من الزمن، قد يصل إلى نصف قرن أو يزيد، نما فيه وترعرع ونضج على أيدي مؤلفين كانت لهم رؤيتهم الفكرية النابعة من امتزاجهم مع الجمهور، وتحسسهم لهمومه وتطلعاته، وغوصهم في مشكلات المجتمع، إلى جانب تشكيلهم لذائقة القراء، الذين كانوا حاضنة لإبداعاتهم.
فالظاهرة الأبرز في الرواية العربية هي واقعُ تداخلِ المراحل والملامح الفنية، في السيرورة الروائية العربية (الواقعيات مثلا).. إلى جانب السيرورة «النفقية» للرواية العربية الحديثة، التي نجمت عن المسرب السياسي الذي وجدت فيه، نتيجة تفاعلها الخاص مع المركزية الأوروبية، للتعبير عن مفاهيم الالتزام والضرورة أو الحقيقة الاجتماعية. هذه السمة النفقية أدّت إلى طبع السيرورة الروائية على العموم بكل شيء على حساب الجمالية. ورغم هذا المنحى السلبي، فإنه يمكن التأكيد على إيجابيتها النسبية، باعتبارها إدماجا للأدب العربي في السيرورة الحديثة والمعاصرة. المقصود بالسيرورة النفقية هو المسارات التي اتبعتها الرواية العربية منذ نشأتها وإلى يومنا، وفيها كثير من عوامل التأثر والتأثير، دون مبالغة أو تحجيم للرواية الأوروبية، شكلا وطرحا، وإن كان هناك كثير من الروائيين، قد شغلتهم الطروحات الفكرية على حساب الجماليات الشكلانية، وربما يعود هذا إلى تصارع مذهبيات أدبية وفكرية وأيديولوجية عديدة، أشبعت فكر الروائيين، فسعوا إلى التعبير عنها، دون أن تتطور قدراتهم الفنية والإبداعية بشكل كبير، أي أن الفكر سبق الجماليات وتفوق عليه.
لقد كانت الرواية العربية إحدى صور معارك الهوية التي خاضها العرب في العصر الحديث، ورغبة طليعة المثقفين في النهضة، ولأنهم كانوا مدركين بأن التقدم في الغرب اجتاز مراحل تاريخية طويلة، لذا، لم يكن أمامهم إلا أن ينهلوا من منتوج الرواية الغربية الثري والمتراكم والمتنوع، الذي اشتمل على الروايات الرومانسية والتاريخية والاجتماعية وروايات الأجيال، فسارع الروائيون العرب إلى الإبداع في كل هذه المذهبيات، في فترة زمنية لا تزيد عن نصف قرن، بل استمر هذا التنوع في الإنتاج الروائي حتى يومنا.
وبمعنى آخر، إن الروائيين العرب في العصر الحديث قرأوا الرواية الأوروبية وقد اكتملت مبنى ومعنى، ووجدوا أمامهم سيلا كبيرا، من الإبداع الروائي، يمتد لأكثر من ثلاثة قرون، وبأعمال جمعت بين النضج الفني والرؤية العميقة، والالتصاق بقضايا المجتمع، والتفاعل مع الإنسان، فليس من المنطقي أن يبدأ الروائيون العرب من الصفر، ولا يتوجب عليهم أن يلتزموا بالمسيرة الأوروبية نفسها في الإنتاج الروائي، فالظرف التاريخي والاجتماعي والفني والفكري مختلف. وقد اطلع الروائيون العرب على النصوص الروائية الغربية الأصلية أو المترجمة، واكتمل في أذهانهم الشكل الروائي، وكان عليهم أن يبدعوا نصوصا تتسق مع مفهوم الرواية، بالتعبير عن المجتمع العربي: اجتماعيا وثقافيا وشعوريا وسياسيا وفكريا، وهذا ما فعلوه، عرفوا الشكل، وتشبعوا من فلسفته وجمالياته، وراحوا يصوغون إبداعهم في ضوء تلقي الجمهور العربي، الذي راح يتقبل تدريجيا هذا الفن الناشئ الجديد، في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. وبات كل روائي، وحسب ملكاته الأدبية، وقدراته الفنية؛ يختار ما يشاء من الموضوعات والأشكال الروائية، ليعبر فيها عن مجتمعه العربي، أيا كان موقعه، وهو ما عبّر عنه نجيب محفوظ، حين قال: الواقع والحياة كلاهما ملهم الكاتب. تفاعله مع بيئته، والناس، والثقافة السائدة، هو ما يكوّن رؤيته وشخصيته. عندما يكتب الكاتب رواية، ما الذي يفعله؟ يأخذ هذه العناصر ويعيد تكوينها لتعطي معنى.. الرواية ترجمة فنية للحدث والواقع.
وهي مقولة بسيطة، لكنها تعبر عن تحرره من عباءة الرواية الغربية، التي أبدع من خلالها نصوصه، وسعى إلى التمرد عليها، والبحث عن التجديد في الشكل.
والمقصد من كلامه أن الروائي يمتلك الموهبة والأدوات ويختمر الشكل في ذهنه، ومن ثم يحول القصة إلى بنية فنية روائية تتفق مع وجهة نظره. وهو ما حفز مبارك ربيع – في بحثه المركزية الروائية والمركزية الثقافية – إلى القول إن الثقافة العربية في موقفها المحيطي أو فلكيتها إزاء المركزية، اتسمت بالسعي- عبر إرادة ذاتية وعبر وعي وتخطيط – لتحقيق دلالة الارتباط بين الثقافتين، وكذا الارتباط بين السيرورتين الروائيتين، على أساس تفتح وتطور لخلق ثقافة جديدة، تعبر عن مجتمع جديد، وتطبعها سمة ثقافية جديدة. وهذا ما جعل الرواية العربية متميزة روائية وفكرية دون أن تدعو إليها ضرورة ثقافية. فالرواية العربية يمكن أن تتحدث عن الرومانسية كما تتحدث عن الواقعية الاشتراكية أو غيرها. وكذلك تتناول ثقافة الصراع الأوروبية وثقافة الإدماج أو الإجماع الأمريكية (للأقليات والمجموعات المندمجة) وبالطبع على نحو مخالف لمفهوم الإجماع في الثقافة العربية، والذي يعني إجماع انصهار والتحام بدلا من مفهوم النسب والقرابة إلى القبيلة والأمة، مما يجعلها متجاوزة لآلية الأقليات والمجموعات الصغرى، والتمحور حول الذوبان في الوحدات الأكبر.
وقد يقرّ مبارك ربيع بأثر التبعية في ظهور الرواية العربية، فيقول إنه بعد تأمل السيرورة الغربية المتناغمة بمراحلها ومواصفاتها، مع ما يربطها بالسيرورة الروائية على الضفة العربية أو في فضائها، فإن الرواية العربية تبدو استزراعا أملته ظروف الضغط أو الجذب الثقافي للمركزية الثقافية الأوروبية على الثقافة العربية. ويفصل مبارك ربيع القول في حجته بأن الفكر الغربي يعرض علينا سيرورة متكاملة في تفاعلها، ما بين اتجاهات فكرية نظرية وفلسفية واجتماعية مع السيرورة الروائية من جهة، ومع السمات العامة للثقافة الأوروبية في مراحلها المختلفة من جهة أخرى. فبينما نلاحظ على المستوى النظري الفكري اتجاهات من قبيل: مثالية واقعية، وعقلانية وروحانية، وواقعية، ومن تجريبية علمية وأيديولوجيا اجتماعية، نجد بموازاتها سيرورة روائية من قبيل رومانسية عاطفية، وطبيعية وصفية، وواقعية اجتماعية، أو نقدية أو اشتراكية، كما نجد السيرورة الروائية تتسم بالتجاوب مع السمات الثقافية العامة للبيئة الأوروبية، خاصة في ما انطبعت به منذ القرن التاسع عشر، من ميسم الصراع، ابتداء من المنطق الجدلي، إلى البقاء للأصلح، إلى التحليل الطبقي إلى الصراع الطبقي) والصراع النفسي. فطابع الصراع خاص بإنتاج الثقافة الأوروبية، على عكس الثقافة الأمريكية، التي هي ربيبة الثقافة الأوروبية وامتداد لها، إلا أن لها ظروفها الخاصة والموضوعية في شمال القارة الأمريكية، حيث تتسم بالإجماع بدل الصراع، وتتركز مفاتيحها المصطلحية حول مفاهيم الإدماج أو الاندماج، والشخصية القاعدية والطابع الوطني، وهو ما اكتسبته التيارات الفكرية التي وفدت من أوروبا إلى أمريكا.
لا شك في أن الرواية العربية استفادت من طروحات الرواية الغربية وأشكالها، وصنعت تميزا لها. لكن نتوقف عند إشارة تتصل بفلسفة الصراع الأوروبية والإجماع الأمريكي، وإن كنا تطرقنا إلى الصراع من قبل، لكن نود التركيز هنا على أن مفهوم الصراع، لأنه سيفيدنا لاحقا عند مناقشة القضايا الإنسانية في الرواية العربية، خاصة تلك الروايات التي تبنت الصراع في رؤيتها.
كاتب مصري