
في مجزرة القدس 15 تموز 1099 قتلوا 70 ألف فلسطيني
وفي مجزرة غزة 15 تموز 2024 قتلوا 40 ألف فلسطيني
مشهد الأساطيل الغربية في شرق المتوسط في تشرين الأول 2023 أعاد إلى الذاكرة ليس فقط خطاب الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عام 2001 عن “حملة صليبية” جديدة ردّاً على أحداث 11 أيلول الإرهابية، بل أعاد أيضاً ذكرى حملات الفرنجة التي وقعت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، حيث كانت تحتشد أيضاً أساطيل القوى الغربية بمواجهة الساحل السوري – اللبناني – الفلسطيني.
ويمكن تلخيص مغزى هذا المشهد بملاحظتين:
الأولى، أنّ مواجهة المشرق بين أغلبية المسلمة ومعها المسيحية المشرقية من جهة والغرب اللاتيني والأنغلوساكسوني من جهة أخرى هي متواصلة منذ 15 تموز 1099 عندما وقعت مجزرة القدس الشهيرة بحق سكانها المسلمين واليهود على أيدي جحافل الغزو الفرنجي. وآنذاك راوح عدد الضحايا في القدس ما بين 60 ألفاً إلى 70 ألفاً.
وبالمقارنة، حتى 15 تموز هذا العام يكون قد بلغ العدد المعلن للضحايا الفلسطينيين في غزة على أيدي قوات الغزو الاسرائيلي 40 ألفاً. وهو رقم مرشح للارتفاع الدراماتيكي متى تحقق وقف إطلاق النار وبدأ رفع الأنقاض.
والملاحظة الثانية أنّ ثمّة طمع اقتصادي غربي في المنطقة العربية. فكنوز العرب وتجارتهم وتقدّمهم في القرن الحادي عشر، أغرت ملوك ونبلاء أوروبا وجرّت إلى حروباً صليبية دامت قرنين.
واليوم ثمّة طمع غربي بثروات المنطقة العربية وما تحويه أراضيها وبحارها من غاز طبيعي ونفط ومواد نادرة وانتاج زراعي وصناعي، وما تعده كتلتها الديمغرافية من أسواق كبرى للسلع الغربية.
استعمل المؤرّخون العرب تسمية “حروب الفرنجة” تجنباً لاستخدام تعبير “الحملات الصليبية”، لما مثّلته التسمية الثانية من أعمال وحشية مارسها ملوك أوروبا باسم الدين في الماضي.
وأحفاد هؤلاء الملوك عادوا اليوم بلباس الديمقراطية وحقوق الانسان والبرلمانات، ليمارسوا نفس المجازر ضد فلسطين حتى بعد مرور 925 عاماً، دون أن يرفّ لهم جفن. فمنذ خطاب جورج بوش عام 2001، دخل مصطلح “الحرب الصليبية” في السياسة الأميركية، حتى أنّ مارك راسيكوت في الحزب الجمهوري وديك تشيني نائب بوش، أعادا استخدام مصطلح “الحملات الصليبية” في حملة إعادة انتخاب بوش عام 2004 مهنئان بوش على “قيادته حملة صليبية عالمية جيدة ضد الإرهاب”.
قريحة الرئيس بوش حول منطق الحرب الصليبية لم تأت من فراغ، فقد احتفلت صحف لندن عامي 1917 و1918 بدخول قوات الجنرال البريطاني اللنبي القدس، ثم دمشق في الحرب العالمية الأولى ووصفت هذا الغزو بأنّ بيت المقدس قد تم استعادته مجدداً كخاتمة سعيدة للحروب الصليبية. كما دخل الجنرال الفرنسي هنري غورو دمشق يوم 25 أيلول 1920 وزار ضريح صلاح الدين الأيوبي (الذي انتصر على مملكة القدس الصليبية في معركة حطين 1187)، حيث ألقى غورو كلمة (وفق كتاب مذكرات رشيد الكيلاني) جاء فيها: “أنت قلت لنا يا صلاح الدين أنّنا خرجنا من الشرق ولن نعود إليه، ولكن ها نحن عدنا يا صلاح الدين! فانهض لترانا ونحن فى سوريا!”.
والجدير بالذكر أنّ أجداد الفرنسيين كانوا يسمون بالفرنجة les franque حكموا مملكة القدس من 1099 حتى 1192. فيكون كلام غورو أمام ضريح صلاح الدين قد جاء بعد 900 سنة تقريباً.
في التحليل المقابل، أي الاقتصادي، فهو أنّ بريطانيا وقد وضعت يدها على المنطقة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، وبدأت باستخراج البترول في الخليج العربي عام 1908، وراهنت على أرباح مذهلة من هيمنتها. وخلال عقود قليلة، باتت تسيطر على قبرص ومصر والجزيرة العربية. ثم اتفق رئيس وزرائها ونستون تشرشل مع الزعيم السوفياتي جوزف ستالين في تشرين الأول 1944 على اتفاق “النسب المئوية”، ما جعل شرق المتوسط من نصيب بريطانيا مقابل سيطرة السوفيات على أوروبا الشرقية.
ولكن بريطانيا خرجت من الحرب العالمية الثانيةمفلسة، فتنازلت عن المنطقة لصالح أميركا عام 1947، لترث واشنطن الأرض والبحر وما عليهما من ثروات وبشر وتجني أرباحاً لا حصر لها من البترودولار ومن الأسواق. فأصبحت الكيانات العربية تابعة لها، ومن شذّ عن ذلك تعرَض للحصار والتدمير.
وهنا نفتح هلالين حول أحداث “الربيع العربي” عام 2011 ولماذا تمّ إسقاط العقيد معمر القذافي في ليبيا. فقد سبق سقوط القذافي سنوات من الاعتدال تقربّت فيها ليبيا من اسرائيل ومن الاتحاد الأوروبي، واستقبلت الاستثمارات الايطالية والبريطانية والأميركية، حتى بات المراقبون يعتبرون تحوّل ليبيا بأنّها دخلت بيت الطاعة الأميركي. ولذلك كان مستغرباً أنّ حكومة القذافي لم تنجُ من تداعيات أحداث 2011. وردّاً على سؤال بات كلاسيكياً: why Qaddafi (لماذا القذافي؟) أجاب الباحث الأميركي المخضرم نعوم تشومسكي – وكأنّه يفهم اللعبة الدولية تماماً: access is not enough، أي السماح غير كافٍ، وبمعنى آخر كان استقبال ليبيا للاستثمارات وانفتاحها أمام الشركات الغربية ليسا كافيين، بل كان يجب على القذافي أن يسلّم بلاده ليدخل الأميركي على أساس أنّه هو السيّد، بينما الحاكم المحلي (القذافي) مجرّد تابعٍ له، يقبض راتبه ويعيش مدللاً مرتاحاً. ولكن حتى قبول الحاكم المحلي بالهيمنة الأميركية لم يكن كافٍ، إذ يجب أن يسبقه استعداد للتطبيع مع اسرائيل، وهذا ما لم تفعله ليبيا بالسرعة اللازمة.
ثم أنّ هذه السياسة القديمة – الجديدة لا تقبل أن يطلّ أي كيان معادٍ لاسرائيل والغرب على البحر المتوسط، بما فيه دول لبنان وسوريا ومصر وليبيا وحتى دول شمال أفريقيا.
فهذا البحر أصبح بحيرة أميركية منذ عام 1947 يحميها الأسطول السادس، وأموره مضبوطة تماماً. فكما في شرق البحر المتوسط وساحله الجنوبي حيث دول شمال أفريقيا العربية، كذلك في ساحله الشمالي حيث الدول الأوروبية. فقد سهّل انهيار الاتحاد السوفياتي 1990-1991 للحلف الأطلسي تدمير يوغسلافيا في عقد التسعينيات وصولاً إلى قصف عاصمتها بلغراد لمدّة 78 يوماً ثم فكفكتها إلى ستّ دول عام 1998(هي حالياً مقدونيا الشمالية وسلوفينيا وكرواتيا وصربيا والبوسنة والجبل الأسود مونتي نيغرو).
وبما أنّ إحدى هذه الدول الستة (البوسنة) فيه أغلبية سكانية إسلامية (ولو ضئيلة)، فقد حُرمت البوسنة من أي شاطىء على البحر المتوسط، ما يشرح أنّ كرواتيا تمتد على حساب البوسنة على كامل الساحل وبشكل مصطنع، فيكون لكرواتيا حدود مشتركة مع دولة الجبل الأسود، وتصبح دولة البوسنة وراءهما بلداً بدون منفذ بحري (خريطة البوسنة المقفلة في أول تعليق).
وهذا المنطق انطبق أيضاً على قطاع غزة الذي أجبر شعبه الفلسطيني حكومة اسرائيل على الانسحاب منه عام 2005.
ولكن الشعب الفلسطيني في غزة كان متعلماً وعصرياً بنى نفسه وطوّر مدنه وأصبح قوة اقتصادية وعسكرية على البحر المتوسط في تقاطع مهم لمشاريع أميركا في المنطقة:
فثروة النفط والغاز البحرية أمام قطاع غزة تهمّ الشركات الأميركية، وقطاع غزّة يقع على مشاريع خطوط النقل التجارية بين اسرائيل والخليج ومصر ولا يمكن تركه بيد حكومة لا تتبع واشنطن كما هي حال معظم الدول العربية، ولا تطبّع مع اسرائيل. فكانت الحرب.
(ملاحظة: في 7 تشرين الأول 2023، شنّ الفلسطينيون في قطاع غزة المحاصر هجوماً غير مسبوقٍ على اسرائيل، لتبدأ خلال أيام حرب واسعة جلبت قوات أميركية وبريطانية وألمانية وفرنسية إلى جانب اسرائيل).
جريدة النهار اللبنانية 23 تموز