ثقافة وفنون

معرض «أمٌّ تحت الإقامة الجبرية» للمقدسية لمى غوشة: السجن المنزلي بأبشع معانيه

معرض «أمٌّ تحت الإقامة الجبرية» للمقدسية لمى غوشة: السجن المنزلي بأبشع معانيه

سعيد أبو معلا

رام الله ـ بحماس شديد تقول القائمة على مركز خليل السكاكيني الفنانة ليلى عباس: «من جاء لمعرض فني ينتقده فهو في المكان الخطأ».

ومن ساحة المركز التاريخي العريق انتظر عشرات المهتمين واحتشدوا لرؤية لوحات فنية رسمت بألوان الأكريليك والزيت، لكنها ليست من فنانة تشكيلية إنما من الصحافية والباحثة المقدسية لمى غوشة. تابعت عباس حديثها: «هنا داخل هذه الجدران يعود الفن بسيطا متاحا غير متكلف، وغير مكترث بتعقيدات المشهد الفني.. هنا ينزل الفن من أبراجه العاجية، ويغدو تعبيرا حرا حميما يبوح بخلجات النفس عندما تسجن».
لم تكن مقدمة الفنانة عباس رغبة في كبح جماح النقد، إنما جاءت كي يتم تلقي لوحاته التي زادت عن ثلاثين ضمن سياقها الخاص من حيث الموضوع الجديد والتجربة التي يحملها، وطبيعة من يقوم به، فـ»أم تحت الإقامة الجبرية» هو معرض سردي تفاعلي يحتوي على رسومات ملونة تحاكي تجربة الصحافية لمى غوشة كأم عانت من عقوبة الحبس المنزلي الذي فرض عليها في بيت عائلتها الكائن في حي الشيخ جراح بالقدس، منذ 4 أيلول/سبتمبر 2022 وحتى تموز/يوليو 2023.
أما مداخلة غوشة أيضا فتضع لوحاتها، التي هي طريقة هروبها من نفسها وجحيم الإقامة المنزلية في سياقها الخاص والعام أيضا، حيث تقول: «عادة ما أعبر من خلال الكتابة، أما هذه المرة فالتعبير جاء من خلال الفن والرسم، والرسالة هنا هي الانتصار لذاتي، فأنا لم أقع في فخ السجن المنزلي، ولم أغير مهنتي، لم أصمت عما أردوا لي أن أصمت عنه بقرارهم سجني منزليا.. فدوما هناك أدوات مقاومة وطرق لإثبات الوجود».
ولا يبدو المعرض بلوحاته المباشرة والمشفوعة بشرح مكثف إلا تجسيدا لقيمة ودافع «التحدي» وقدرة الفلسطيني على تجاوز حالات الخنق والقتل، تقول غوشة: تعرضت لثلاثة أنواع من عقوبات السجن، حاليا يريدون إعادة حكم السجن الفعلي، لكن الأهم أن أصواتنا ورواياتنا عليها أن تقاوم سياسات الإخراس والتخويف، يجب أن نحكي بكل ما يتاح لنا».
وتكمل في كلمة مرتجلة أمام الحضور الذي جاء يشاركها تجربة تلقي رسوماتها الفنية والواقعية: «المعرض ليس كي أبدوا أنني بطلة، إنه يحمل رسالة، فكل شخص يمكنه أن ينقل صعوبة ما عن العقوبة الاستعمارية التي تسمى الحبس المنزلي، وهي عقوبة قاسية وسيئة جدا، ويجب أن يكون لدينا وعي بها كي نجابهها، وكي لا يتحول الأهل (العائلة) لجلادين لأطفالهم وأبنائهم».
وجاء في دعوة المعرض التي تستقبل الزائر في الطابق الأرضي من مبنى خليل السكاكيني: «بالتزامن مع قرار الاحتلال بإعادة اعتقالها بعد مرور عامين بالضبط على اعتقالها الأول» فالاحتلال لا يتوقف ولا يكل ولا يمل من ترصد وملاحقة «الفلسطيني الحي» وحسب رئيس هيئة شؤون الأسرى قدورة فارس الذي حضر لقاء الافتتاح فإن «لمى كأسيرة محررة، منخرطة في الحياة، والانخراط في الحياة في فلسطين يعني أن تنخرط في حياة شعب يريد الحرية التي ستأتي بحكم المؤكد».
ورغم فرض سلطات الاحتلال الإسرائيلي قرارًا بالحبس المنزلي لمدّة 10 أشهر على الصحافية غوشة، ترافق معه منعها من الاتّصال والتواصل مع العالم الخارجي، إلا أنّها استطاعت أن توصل صوتها وتعبّر عن مشاعرها بالريشة والألوان.
فالمعرض بلوحاته السردية يخلق تفاعلا مع تجربة غوشة، فأمام لوحاتها التي تحاكي حياتها خلال فترة الإقامة نرى غوشة تارة، كما نلمس مشاعرها وحجم ضيقها وواقع البؤس الذي تعيشه، لتكون اللوحات محاولة لكسر حاجز الصمت والتمرد على القيود الملتفة حول حنجرتها. والسجن المنزلي هو أداة عقابية استعمارية صهيونية متوارثة عن الانتداب البريطاني، وهي غالبا ما تكون مشروطة بمنع الاتصال والتواصل مع المجتمع الخارجي واقعيا (وحتى افتراضيا) وهو ما يؤدي إلى تشويه صورة البيت ونزع خصوصيته كمكان للوجود والامتداد الفلسطيني.
فحين يصبح البيت الآمن سجنا تتحول العائلة الدافئة إلى أداة رقابة وتحكم، فيما تعكس اللوحات جانبا من هذا الواقع السجني الجديد المليء بالقيود والأصفاد.
هنا لجأت غوشة إلى الرسم كحيلة من حيل الهروب والمقاومة لإنقاذ ذاتها من الانكسار مستعينة بروح طفلتها الداخلية للبوح باختلاجات نفسها ومعاناتها.
وفي معرضها الأول لا توفر غوشة فرصة للحديث عن موضوع اللوحات، فهي وإن كانت تشكر الحضور على تواجدهم في لحظات صعبة كالتي تمر بها فلسطين، تؤكد لهم انهم جزء من «حاضنتها الشعبية التي تحتاجها ويحتاجها كل مجتمع يمر بشرط استعماري».
وسيتوقف الزائر أمام كلمات غوشة التي تقول وتطالب بالاهتمام بتجارب الحبس المنزلي، فهناك في لحظة افتتاح المعرض «أكثر من 70 شخصا تحت قيود الحبس المنزلي… كما لا يوجد فلسطينيا إحصائيات لعدد الأسرى الذين تعرضوا للحبس المنزلي» حسب ما تصرح غوشة.
وكل لوحة من المعرض الذي جاء في غرف مركز خليل السكاكيني السفلية (كنوع من تجسيد معاني اللوحات) جسدت كأم وصحافية ومقدسية كل شعور مرت به في أشهرها العشرة، فبعد مشاعر الغضب الشديد كانت تذهب للوحات وتأخذ بالرسم وترفقه بنص في حالة من الوعي بالفن ورؤية يغلب عليها الصحافي والتوثيقي والمعرفي على الفني، «فكل لوحة لها قصة وحالة مرت بها في الأسر بحبسي المنزلي».
وهي منذ البداية تشدد أن هذا النوع من السجن: «مش ناعم وليس سهلا، إنه قاس جدا، ومهم جدا أن نتحدث عنه، سجن يختبر كل مشاعرنا الداخلية، ويخلق صراعات داخل نسيج الأسرة الفلسطينية… لقد مررت مع عائلتي بـ«طوش/ مشاكل» لا تحصى، دوما كانت الصراعات داخل عائلتي، وهذا الهدف من الحبس لمنزلي.. أي أن تصبح غير قادر على الحديث مع أهلك، حيث يتحول الأهل إلى أدوات سيطرة وتحكم».
وتذهب أبعد من الحديث عن تجربتها فتقول: «جمعت قصصا عن الأسرى الأطفال الذين يحكمون منزليا، كان بعضهم يريد الانتحار، أو أن يذهب للسجن الفعلي، والسبب في ذلك إلى جانب طبيعة العقوبة يعود كون الأهل غير مدركين لخطورة الحبس المنزلي ولا كيف يتحول إلى أداة استعمارية».
ويحسب للصحافية المقدسية غوشة أنها لم تتوقف عند حدود اللوحات كأداة تعبير بل كتبت بحثا حصدت عليه جائزة «إبراهيم الدقاق» لأفضل مقال عن القدس بعنوان «سوسيولوجيا الحبس المنزلي—تجربة شخصيّة. الهروب كأداة صمود» وهي جائزة مقدمة من فصليّة القدس (Jerusalem Quarterly) الصادرة باللغة الإنكليزيّة عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.
في حفل افتتاح المعرض حضر الفنان الفلسطيني الكبير سليمان منصور، الذي عاش تجربة افتتاح أول معرض في حياته، كما قال، وهو الذي دعم غوشة وشجعها على المضي قدما في نشر لوحاتها، فهي حسب منصور تمتلك روح الفنانة: «عندك روح الفنانة هناك بداخلك وأنا قادر على رؤيته بعيدا عن تقنيات الرسم».
وحسب وصف منصور فالمعرض «يعبر ويعكس عن فشة غل ومشاعر أكثر مما هو يعكس أعمالا فنية» كما أشاد بما تمتلكه «من إصرار غريب ومثابرة وهي أهم شيء يمتلكه الفنان». ورأي الفنان محمد عزيز عاطف وهو صاحب تجربة رسم بالقهوة والرصاص وتهريب لوحات من السجن الإسرائيلي قبل أعوام تجربة غوشة بإنها تعكس تجربة «خروج الصحافي من الصندوق».
وقال في وصف اللوحات: «إنها قصة صحافية مبتكرة ورائعة وذكية، من صحافية ذكية تعرف كيف تنقض على المشهد الصحافي بكتابات وطرق تعبير جديدة».
وشدد على أن اللوحات وإن «بدت تعابيرها طفولية إلا أنها تعكس أفكارا رائعة وجديدة».
أما رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس، فرأى أن المعرض يعكس نموذجا دالا على أن الفلسطيني يرفض التكيف على تلقي الممارسات الوحشية، «بل نجد سبيلا لتعزيز صمودنا وندرك كيف نتصدى لكل إجراء إسرائيلي جديد».
واعتبر فارس المعرض عبر لوحاته تسليطا قويا للضوء على تقليعة بشعة من تقليعات الاحتلال، فالاحتلال كشأن كل الطغاة على الأرض لا يقدمون أي اختراع جيد للبشرية، بل يبتكرون كل الأساليب الوحشية بكل ما تحمل من معاني الاجرام». وكانت سلطات الاحتلال قد اعتقلت الصحافية لمى غوشة في شهر أيلول/سبتمبر عام 2022 ووجهت لها تهمة التحريض، قبل أن تحيلها إلى الحبس المنزلي لمدة 10 أشهر، ومن ثم أصدرت قرارًا بالعمل الإجباري في دار للمسنين الإسرائيليين بديلًا عن عقوبة السجن الفعلي.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب