تحقيقات وتقارير

ليبيا: سباق لخطف البنك المركزي

ليبيا: سباق لخطف البنك المركزي

رشيد خشانة

يدل اللجوء إلى النائب العام، على أن الفريقين المتصارعين يتفاديان حاليا اللجوء للخيار العسكري، بسبب فيتو أوروبي أمريكي على عودة ليبيا إلى الحرب الأهلية.

في خطوة مفاجئة عكست خطورة الصراع الدائر حاليا في ليبيا، غادر حاكم المصرف المركزي المعزول بالقوة، الصديق الكبير طرابلس إلى الخارج. واضطر الكبير إلى المغادرة مع موظفين كبارا في المصرف، لأن حياته وسلامة أسرته وأسر موظفين كبارا في البنك باتت مهددة. ولم يوجه الكبير الاتهام إلى فصيل معين، لكنه أكد في تصريح لصحيفة «فاينانشل تايمز» أن مسلحين يهددون موظفي البنك ويخطفون أحيانا أقاربهم «لإجبارهم على الرضوخ للانقلاب».
والأرجح أن وراء تلك الإجراءات مجموعات مسلحة تتبع رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، الذي سخر جميع الوسائل لتنحية الكبير من منصبه. وبالنظر إلى خطورة العملية، توالت البيانات والتصريحات من أطراف اقليمية ودولية عدة، للمطالبة بإنهاء الأزمة وتحقيق الاستقرار في المراكز القيادية بالمصرف.
ولم يكن متوقعا أن يرفع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح دعوى جنائية ضد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. فمثل هذه الشكوى بين القادة السياسيين تُعدُ أسلوبا غير مسبوق ولا هو مألوف في مسار الصراع السياسي الليبي. ويرمي صالح والمتحالفون معه، من وراء هذه الدعوى إلى محاسبة من وصفهم بـ«المتورطين في اقتحام مقر مصرف ليبيا المركزي» في طرابلس الاثنين الماضي. كما طلب رئيس مجلس النواب من النيابة العامة «إخطار المجلس بالإجراءات التي اتخذها بعد مباشرة التحقيق».
ويدل اللجوء إلى النائب العام، الذي لا يملك السلطات اللازمة لتنفيذ القرارات التي يتخذها، على أن الفريقين المتصارعين يتفاديان حاليا اللجوء للخيار العسكري، بسبب فيتو أوروبي أمريكي على عودة ليبيا إلى الحرب الأهلية.
ولفت عقيلة صالح إلى أن الاختصاص المتعلق بتعيين وإقالة المحافظ ونائبه مسألة حسمها قانون المصارف، إذ أن السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب هي المختصة بذلك. وأكد القانون على تبعية المصرف لها. كما أن الاتفاق السياسي الليبي، في الصخيرات عام 2015 نص على ضرورة التشاور والتوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، عندما يتعلق الأمر بالتعيينات في المناصب السيادية، ويُعد منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي ونائبه من ضمن تلك المناصب السيادية.
وفي أعقاب صراع بين فريقين أحدهما مدعوم من المجلس الرئاسي والثاني من عقيلة صالح، أعلن مجلس الإدارة المكلف من المجلس الرئاسي في اليوم نفسه، دخوله إلى مقر المصرف، واستلامه مهام الإدارة بالكامل، والتزامه بالانتقال السلس بين قيادتين. وفي هذا الإطار تمت تسمية أحد القيادات العليا في المصرف، عبد الفتاح الغفار ليتولى منصب حاكم المركزي. غير أن هذا الأخير، الذي قبل مبدئيا بتولي المنصب وقتيا، اشترط أن تتم تزكيته من الطرفين المتخاصمين، بما يعني أنه يرفض أن يُحسب على شق من الشقين المتنافسين دون آخر. أما المحافظ المعزول الصديق الكبير، فأصدر هو الآخر بلاغا، بصفته «المحافظ الشرعي» للمصرف المركزي، وجه فيه الاتهام إلى ستة مسؤولين كبارا في المصرف، كانوا على علاقة مع ما اعتبره «اقتحاما» لمقر المصرف المركزي.
ومن اللافت أن هذا الصراع بين القادة الليبيين استرعى اهتمام أمريكا، إذ لم يتوان السفير ريتشارد نورلاند، الموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا، عن الطلب من رئيس الحكومة الدبيبة التخلى عن قرار عزل الكبير من موقعه على رأس المصرف المركزي. وتقدم الصديق الكبير من ناحيته، ببلاغ إلى النائب العام ضد رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي، في ضوء قرار تغيير إدارة المصرف المركزي، معتبرًا ذلك ضربا من سوء التصرف وإضرارًا بمصالح الإدارة العامة لـ«المركزي» على الرغم من إصرار مجلس النواب على استمرار تكليفه محافظا للمصرف.
وحمل الكبير، في بيان نشرته «بوابة الوسط» الإخبارية الليبية، المجلس الرئاسي، المسؤولية عما ترتب على قراري تعيين محافظ جديد للمصرف المركزي وتغيير مجلس إدارته، معتبرًا ذلك «جرائم ترقى إلى الجنايات». وأشار الصديق الكبير في الشكوى إلى القرار رقم 147 لسنة 2011 الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، الذي كان يمثل السلطة التشريعية في ليبيا آنذاك، بموجب نص المادة 17 من الإعلان الدستوري، المتعلق بتكليفه محافظا لمصرف ليبيا المركزي.
وأصر الكبير أيضا على الاستمرار في الاضطلاع بمهامه، إلى أن يصدر القراران رقمي 22/21 لسنة 2024 ويتعلق الأول بتسمية محمد الشكري محافظا لمصرف ليبيا المركزي، أما الثاني فيخص معاودة تشكيل مجلس إدارة المصرف، معتبرًا أن القرارين يشكلان «سابقة خطرة وانتهاكاً صارخاً لأحكام القانون» حسب رأيه. كما انتقد بشدة الاعتداء على موظفي المصرف «بالخطف والتهديد بالإخفاء والمنع من السفر، إضافة إلى الاعتداء على النطاق الإلكتروني للمصرف وانتحال الصفات» على ما قال.
ويرتدي المصرف المركزي مكانة خاصة في ليبيا، فهو الذي يتلقى إيرادات تصدير النفط والغاز ويتولى توزيعها على حكومتي الشرق والغرب، أي أن حكومة الدبيبة هي التي تقوم دوريا بصرف الموازنة السنوية لغريمتها الحكومة الموازية، برئاسة أسامة حماد. وعلى سبيل المثال، قالت «الوطنية للنفط» إنها أحالت للمصرف المركزي 11.6 مليار دولار منذ بداية العام الجاري.
من هنا نلاحظ أن خصوم المجلس الرئاسي استخدموا وسيلة موجعة لمعاقبته على موقفه من تغيير حاكم المصرف المركزي، فأعلنوا القوة القاهرة وأوقفوا إنتاج النفط وتصديره إلى حين يعود الكبير إلى منصبه على رأس «المركزي». وتسببت مضاعفات هذا القرار بأزمة وقود تكاد تشل البلد، إذ سرعان ما ملأت طوابير السيارات مداخل محطات التوزيع. ومع ذلك حرصت شركة «البريقة» على الاستمرار بتأمين الوقود في جميع المحطات، على ما قال موظفوها.
بيد أن هذه الاضطرابات التي شملت قطاع النفط والغاز، ستعطل تحقيق الأهداف المرسومة لتنمية القطاع، ومن بينها حفر 245 بئرا جديدة قبل نهاية العام الجاري، إضافة إلى صيانة 1335 بئرا أخرى. وأوضح مدير إدارة الحفر وصيانة الآبار فيصل ميلود أن هذا الأمر يعدّ تحديًا كبيرًا، بسبب الصعوبات التي واجهتها المؤسسة حتى العام الماضي. وتتمثل هذه التحديات، وفق ميلود، في نقص عدد الحفارات الموجودة في البلاد، الأمر الذي دفع إدارة الحفر وصيانة الآبار إلى التواصل مع شركات عالمية، من خلال لجنة تشكّلت لهذا الهدف، لتشجيعها على العمل في ليبيا، وتأمين متطلبات زيادة الإنتاج.
ويمكن القول إن أحوال قطاع النفط الليبي تحسنت في فترة الاستقرار النسبي أخيرا، حسب أحدث البيانات، إذ تجاوز إنتاج القطاع في شهر كانون الثاني/يناير 2024 حاجز الـ 1.2 مليون برميل يوميًا، وهو ما يتسق مع جهود مؤسسة النفط لإنتاج مليونَي برميل يوميًا بحلول نهاية العقد الحالي أي في 2030.
ويُرجح الباحث الليبي الدكتور مصطفى رحاب أن يُعاد فتح صنبور النفط حالما تضغط أمريكا وأوروبا لمعاودة فتحه، كي لا تتفاقم الأزمة وتكثر خسائر الشركات الأجنبية، ومنها الشركات الأمريكية النفطية العاملة في ليبيا. وتحافظ حكومة الدبيبة والقائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء حفتر،على علاقات متينة مع الأمريكيين، كانت إحدى علاماتها زيارة آمر القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا الجنرال ميكائيل لانغلاي إلى كل من طرابلس وبنغازي. وتزامنت الزيارتان والاجتماعات التي تمت مع المنفي وحفتر والدبيبة، مع تصريحات أدلى بها رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، مارك ميلي، أكد فيها أن الولايات المتحدة «لن تغادر منطقة الشرق الأوسط» التي تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة لبلاده، في مجالات عديدة.
وقال ميلي في مقابلة تلفزيونية «لدينا أصدقاء وشركاء في المنطقة، ونريد التأكد من أن هذا المكان مستقر، فالمنطقة مصدر أساسي للنفط والطاقة لدول العالم كله». ولخص المسؤول العسكري الأمريكي رؤية بلاده للمنطقة بقوله «إن الولايات المتحدة لن تغادر المنطقة، والتزاماتنا ستستمر لعقود».
أما الأمم المتحدة فشعرت بخطورة المنزلق الذي تكاد تتورط فيه غالبية الفرقاء الليبيين، والمُتجه نحو الاحتكام مجددا للعنف والسلاح. وعلى هذا الأساس حض مجلس الأمن الدولي القادة والمؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية في ليبيا، على «تخفيف حدة التوتر والامتناع عن استخدام القوة والترهيب والتدابير الاقتصادية التي تهدف إلى ممارسة الضغط» مطالباً بالـ»التوصل إلى حل لأزمة المصرف المركزي، بالتوافق بين جميع الأطراف». لكن مثل هذا الموقف الوعظي لن يُقرب البلد من نهاية أزماته السياسية والاجتماعية، المتجددة منذ أكثر من عشر سنوات.

دعوة من الأمم المتحدة

وكان متوقعا أن يكون رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أول المرحبين ببيان مجلس الأمن، معبرا عن قبوله دعوة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للمشاركة في حوار وطني يرمي إلى معالجة مسألة المصرف المركزي. ورأى المنفي أنه من الضروري المراكمة على ما بنته لجنة 6+6 وهي اللجنة المكلفة من المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، بإعداد القوانين الانتخابية. ورأى رئيس المجلس الرئاسي أن استشارة الشعب في شأن المواد الخلافية المتبقية، تُشكل وسيلة للوصول إلى توافق وطني يمهد لإجراء انتخابات عامة، بالاعتماد على تلك التوافقات، قبل 17 شباط/فبراير 2025 ويتزامن هذا التاريخ مع الذكرى الرابعة عشر للانتفاضة، التي أطاحت بحكم معمرالقذافي وأبنائه.
وانسجاما مع هذا التوجه، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في 26 آب/أغسطس الحالي عقد اجتماع طارئ تحضره الأطراف المعنية بأزمة المصرف المركزي، للتوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدإ استقلالية المركزي وضمان استمرارية الخدمة العامة.
على أن ما يثير مخاوف الليبيين اليوم ليس الصراع على المناصب في هذه المؤسسة أو تلك، والذي عمق الهوة بين مكونات النخبة المتصارعة، وإنما هو أولا البحث عن محطة لبيع البنزين والغاز. أما الهاجس الثاني فهو المناخ المتوتر على إثر التحركات العسكرية الأخيرة في المنطقة الغربية، مع وصول تعزيزات من القوات والأسلحة، من بينها أسلحة من تركيا، ما أعاد إلى الأذهان شبح عودة الحرب الأهلية (2019 ـ 2020).
وزودت القوات التركية قاعدة الوطية الجوية بنظام الدفاع الجوي الأكثر حداثة «HİSAR-O100»والمعروف بـ«هيسار أو 100» ليحل محل نظام MIM- 23 مايم 23 Hawk حسب موقع «مليتري أفريكا». ويدل كسر التحذير الدولي من تسليح طرفي النزاع في ليبيا، على أن الأتراك ماضون في جهود التسليح، استشعارا منهم أن الحرب احتمال وارد، وأن عليهم وعلى حلفائهم في حكومة الوحدة الاستعداد لها، كي لا يستولي اللواء المتقاعد حفتر على المنطقة الغربية بعدما سيطر على المنطقتين الشرقية والجنوبية، اللتين تضُمان أكبر حقول النفط والغاز وموانئ التصدير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب