ثقافة وفنون

تجربة الرسام العراقي أحمد خليل الربيعي: كسر التوقع والمألوف في ذاكرة المتلقي

تجربة الرسام العراقي أحمد خليل الربيعي: كسر التوقع والمألوف في ذاكرة المتلقي

مروان ياسين الدليمي

العلاقة بين اللوحة والواقع موضوع معقد وإشكالي في تاريخ الفن، فعلى الرغم من أن اللوحة تستمد عناصرها من الواقع، إلا أنها ليست مجرد انعكاس مباشر له، بل هي إعادة تشكيل وصياغة لهذا الواقع من خلال رؤية الفنان وأدواته الفنية، وهذا التفاعل يتأثر بشكل متبادل بين الفن والواقع، ويطرح تساؤلات حول مدى تأثير كل منهما على الآخر. فاللوحة بغض النظر عن الأساليب والمدارس الفنية، ليست صورة فوتوغرافية تنقل الواقع كما هو، بل هي رؤية فنية يعيد من خلالها الفنان قراءة الواقع استنادا على سلطة التخييل، مستثمرا ذخيرته المؤلفة من خبرته الحرفية المتراكمة، وتقنياته الذاتية في التعامل مع الألوان والأشكال والخطوط، ليس بقصد محاكاة ما يراه، بل للتعبير عن مشاعره وأفكاره ورؤيته الذاتية إزاء ما يحيط به خارجيا. وفي هذا السياق تستحيل اللوحة إلى أداة لإعادة تشكيل الواقع بايحاءات تحمل دلالات رمزية غير مباشرة عن العناصر الواقعية.
وإذا ما تأملنا لوحات الرسام العراقي أحمد خليل الربيعي (مواليد الموصل 1977) سنلاحظ إلى أي مدى تشكل العلاقة حضورا واضحا بين ما ينتجه من لوحات وبين الواقع، فهو منشغل دائما في الاحتكاك بالعالم الخارجي، وعلى الدوام تتغير ردود أفعاله ناحيته، وقد تتخذ هذه العلاقة شكل الاحتفاء بعوالم الطفولة التي غادرتنا، أو يتوغل خلف مظاهر الفرح التي تنثرها شخصية المهرج التي تتكرر في لوحاته ليلتقط الصورة المضادة التي تعيشها هذه الشخصية بعيدا عن منطقة الجمهور المبتهج وهو يتابعها. ومثلما يجد الربيعي أن العالم متآلف مع المتناقضات في كل شيء في العديد من لوحاته، إلى الحد الذي يبدو فيه ما هو معقول ليس معقولا، إلا أنه من وحي حرصه على اختراقه للمألوف والعمل على بناء علاقة استشكالية معه، نجده لا يتوقف عند حدود المتابعة والملاحقة الموضوعية لهذا العالم الخارجي، بل يتحرك بعناصره الواقعية التي يستدعيها إلى لوحته في عوالم متخيلة، سعيا وراء إيقاظ لحظة داخل التجربة الفنية تتحقق فيها المفارقة بكل ما قد تحدثه عناصرها الجمالية من كسر للتوقع والحدس عند المتلقي وذلك عبر التركيز على طغيان الناحية الشكلانية في بناء اللوحة.

دهشة التلقي

يجنح الربيعي في إطار تكوينه للعلاقات بين المفردات الواقعية داخل لوحاته إلى خلق الدهشة بسياقها الجمالي والتي غالبا ما تتماهى مع ما تبعثه من تساؤلات لدى المتلقي، ليصل بما يطرحه من إشارات حول تصوراته عن الفن ووظيفته وعلاقته مع العالم إلى ترسيخ قناعته الواضحة بأن من الطبيعي أن تتأثر التجربة الفنية بالواقع المحيط طالما الفنان يعيش حياته الواقعية في المجتمع ويواجه ذات التحديات والظروف التي يواجهها الآخرون، لهذا فإن لوحاته تعكس برمزية مفرداتها الواقعية قضايا لها صلة وثيقة بالإنسان الذي نصادفه في الحياة اليومية، وليس مخلوقا آدميا منفصلا عن التجربة الحياتية بكل ما فيها من فرح ومرارة وحزن وسعادة، فلاغرابة أن تحل شخصية المهرج في المنطقة المركزية لمعظم الموضوعات التي يتصدى لها، فما أشبه الإنسان المعاصر بالمهرج الذي يبتكر السعادة للآخرين بينما يعجز عن تحقيقها لنفسه.
والربيعي لا ينجرف في أسلوبه إلى محدودية المحاكاة الواقعية والصريحة رغم تفاعله وانشداده القوي مع الواقع، بل ينحاز إلى ناحية تفكيكه وتشظيه، منجزا بذلك صيغة فنية من التعالق قائمة على الاتصال والانفصال مع الزمن المعاش إنسانيا في آن، ويأتي ذلك في إطار بنية فنية تتشكل فيها عناصر اللوحة وفق صياغة تخييلية كما في لوحة «المتلونون» على سبيل المثال، حيث ينفرد الكلب باعتباره مفردة واقعية لاختراق المطابقة التقليدية في الاستيحاء والاستلهام من الواقع، ومن ثم يعمد إلى تحطيم التصور المكرس والمتداول عند تناوله موضوعة المتلونين في الحياة الاجتماعية أو السياسية، مع إصراره على أن تكون السطوة الكلية التي تحدثها لوحاته لدى المتلقي، لا تخرج عن حالة من المسرة عند تلقيها للوهلة الأولى، وهذا يعود إلى أن شخصية الربيعي تميل إلى السخرية في تعاملها مع القضايا العامة التي يسحبها إلى منطقة النقد والتقريع.
اللوحة عند الربيعي تخاطب وعي المتلقي، لأنها تبدو مشحونة بعلامات تشير إلى ما يتداخل فيها من تجاذبات التأثر والتأثير بينها وبين الواقع، وهذا يعود إلى إصراره على تقديم رؤى جديدة حتى وهو يطرح قضايا يتم تداولها في الحياة، مؤكدا بذلك على فكرة أن الفنان يمكن أن يلهم التغيير الاجتماعي أو يثير النقاش حول موضوعات مهمة، وهذه الفكرة قديمة لكنها لم تفقد قوة حضورها رغم تغير المفاهيم إزاء الفن ووظفيته. فعلى سبيل المثال لعبت لوحات الحركات الطليعية في بداية القرن العشرين دورا في تحدي الأعراف التقليدية والدفع نحو التغيير الثقافي والاجتماعي. واللوحات قد تؤدي أحيانًا إلى تغييرات فعلية في المجتمع من خلال إثارة وعي المتلقين وإعادة تشكيل تصوراتهم، كما في لوحة «الموناليزا» لدافنشي (1452 ـ 1519) أو «الجورنيكا» لبيكاسو(1881 ـ 1973) أو «الفتاة» للهولندي يوهانِس فيرمير (1632 ـ 1675 ) أو «ولادة فينوس» للإيطالي ساندرو بوتيتشيلي (1485-1486) أو «سقف المصلى» لمايكل أنجلو(1475 ـ 1564 ) أو «القبلة» لجوستاف كليمت (1862ـ 1918).
والربيعي من جانبه يحتفظ لنفسه بهذا الانحياز في رؤيته للفن وطبيعة الوشائج التي يرتبط بها مع الواقع كما في لوحة «ضياع» التي استوحى مفرداتها من عالم الطفولة المهدورة في حياة تحكمها الفوضى والحروب والأعمال الشاقة التي تسرق أعمار الأطفال.

ليست علاقة خطية

العلاقة بين اللوحة والواقع عند الربيعي ليست علاقة خطية أو أحادية الاتجاه، بل في حالة من التفاعل المتبادل، وهذا التفاعل يمكن أن يعزز الوعي الاجتماعي ويحفزه على التغيير، أو يعكس حالة الاغتراب والتشاؤم التي تهيمن على الحياة عندما تستفحل الأزمات وتفرض سطوتها على الإنسان، مثلما جاءت عليه إحدى لوحاته حيث يظهر في الجانب الأيسر منها رجل جالسا على دكة محل (مرطبات الحاج زبالة) الشهير في شارع الرشيد في العاصمة بغداد، معتمرا قبعة تعود إلى خمسينات القرن الماضي وهو يعزف على آلة هوائية نحاسية، أما في الجانب الأيمن من اللوحة تظهر واجهة بيوت بغدادية تقليدية تمتد إلى العمق بينما يبدو شارع الرشيد الذي تطل عليه فارغا وموحشا وخاليا من البشر والحياة. ولأن الربيعي لا يستطيع أن يتخلى عن المفارقة نجده حرص على أن يرسم في مقدمة اللوحة شخصيتين ترتديان ملابس المهرجين المخططة وأمامها باقة ورد أصفر اللون داخل إناء زجاجي، وتقصد بذلك أن يحطم المنظور من حيث عدم تناسب حجم المهرجين مع بقية المفردات الواقعية لأن لديه نزعة دائمة في كسر التوقع والإيهام لدى المتلقي، وهذا ينسجم مع طبيعته التي تميل في مجمل لوحاته إلى الخروج عن النمطية في رؤية الواقع، بما يشير إلى أنه بغاية الاهتمام في أن يكون قادرا على فرض تصوراته الذاتية على ما هو مرئي من مفردات الحياة عندما يأتي بها إلى لوحته، وأن غرضه ليس الاحتفاء بها أو توثيقها أو التعامل معها من وجهة نظر سياحية تجميلية كما يبدو للوهلة الأولى. قراءة لوحات الربيعي تصل بنا إلى فكرة تقول، تبقى العلاقة إشكالية ما بين اللوحة والواقع، ويتأثر فيها كلا الطرفين بالآخر، ويعتمد ذلك على الظروف الثقافية والتاريخية المحيطة، بمعنى أن الفن والواقع ليسا كيانين منفصلين، بل هما جزء من تفاعل دائم ومستمر يشكل حياتنا وثقافتنا وشخصيتنا، فاللوحة لديه وفق هذا المفهوم أكثر من مجرد عمل إبداعي يزين الجدران؛ إنما هي خطاب جمالي، يحمل بين إشاراته رسالة يعبر من خلالها الفنان عن رؤيته لذاته والحياة والواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب