ثقافة وفنون

الحياة والحب

الحياة والحب

هاشم شفيق

شيّد الثنائي الوجودي الفلسفي، المفكران والفيلسوفان جان بول سارتر ورفيقة حياته سيمون دوبوفوار، عالماً فكرياً وفلسفياً وبحثياً أنطولوجياً قائماً بذاته، من خلال ما كتباه وطرحاه من رؤى وأفكار ومواضيع، تمس حياة الكائن البشري المعاصر، بكل تجلياته وتفصيلاته وتمظهراته الوجودية، وهو يخوض مشكلات الواقع المعقّدة والحياة برمّتها، وما تكتنزه وتستبطنه من نوازع ونوايا وطموحات، وما يترتب على هذا من نكوص تارة، وانطلاق تارة أخرى، تفرضه سبل الحياة ومعيقاتها وانتصاراتها كذلك.
في ضوء هذه التجربة المضيئة والجديدة في عالم الفلسفة الوجودية، بات سارتر ودوبوفوار أداة استقطاب للشباب واليسار الجديد، وللحركات المناهضة للحروب والعنصرية وللتحولات المحدثة في عالمي الرجل والمرأة، على حدّ سواء، ومن هنا انطلق الطلبة الدارسون للفكر والفلسفة وللميدان الأنثروبولوجي يستهدون بعالمي سارتر ودوبوفوار، ويتخذون من أفكارهما مرشداً ودليلاً لآرائهم، تدعم وتعزز بحوثهم الفلسفية، أمام العلم وأمام رواد الفلسفة الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً الى الستينيات من القرن الفائت، بحيث أدت أفكار سارتر إلى أن يكون نبيّ العصر الحديث، بما طرحه من فلسفة متمرّدة مسّت شرائح من المجتمع الشاب والجديد، ومن هنا أضحى سارتر مادة للبحث، وكذلك زميلته دوبوفوار، وأصبحا على الدوام، وعلى مدار عقود من الزمن وحتى وقتنا الحالي، مجالاً للتحليل والدراسة والاستقصاء، وكذلك تحوّلا بمرور الوقت إلى رمزين قوميين للشعب الفرنسي، فاقتفى أثرهما وتأثر بأفكارهما الملايين من شبيبة العالم، وكان وقع كتبهما ينزل في الساحة الأدبية والفكرية والفلسفية والصحافية نزول صاعقة، حيث كانت تخض وتهز الواقع الثقافي والفكري والفلسفي الفرنسي والعالمي حينذاك، وبطريقة لم يسبق لأحد أن شهد مثلها إلا القلة من الشخصيات من أمثال فولتير وموليير وفيكتور هوغو، ولهذا سعى الكثير من الكتاب والصحافيين ومدوّني السير الذاتية، إلى تسطير الكثير من المدوّنات اليومية لحياة سارتر ودوبوفوار المشتركة، والواحدة وغير المجتزئة.
آخر هذه الكتب التي لا ينقطع سيلها، وتظهر بين فترة وأخرى ترجمات لها بالعربية، هو كتاب «سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر ـ وجهاً لوجه ـ الحياة والحب» تأليف هازل رولي وبترجمة سلسة ودقيقة من محمد حنانا، والصادر عن دار المدى.
ينطوي الكتاب على ثلاثة عشر فصلاً، مثل فصل (توقع الحرب) وهنا المقصود بالطبع الحرب العالمية الثانية، ثم فصل (وقوع الحرب) وفصل (باريس المحتلة) وفصل (الشهرة) والمقصود بها شهرة سارتر ودوبوفوار، وفصل (منفيان في الوطن) و(طقوس الوداع) والمقصود هنا طقوس وداع سارتر إلى مثواه الأخير، حيث خرجت كل باريس تقريباً سائرة في جنازته حيث سيوارى الثرى في مقبرة مونبرناس، وستلحقه للمثوى ذاته، وإلى جانب سارتر سيمون دوبوفوار التي عاشت بعده بضع سنوات من الزمن، وحيدة وعجوزاً، لكنها كانت ذات شهرة عالمية، ولم تنقطع عنها الأضواء، حتى مماتها في شقتها الباريسية.

نال سارتر ودوبوفوار شهرة لا تضاهى، وما أن حطت الحرب العالمية أوزارها حتى غدا اسماهما الأكثر شهرة في العالم، كونهما فيلسوفين ناديا بحياة مغايرة، وفكر جديد، ورؤية علمية وأدبية وجمالية، لم تكن موجودة أو مكتوبة قبلهما.
وقد كتب الثنائي سارتر ودوبوفوار في كل الأنواع الأدبية، كالروايات والمسرحيات والدراسات الفلسفية البحثية والفكرية، وكتبا القصص وأدب الرحلة، فهما كانا أثناء سنوات شهرتهما تصلهما دعوات من كل العالم، فقد زارا أمريكا واليابان والصين ومصر وبلدان المغرب العربي والاتحاد السوفييتي سابقاً والبلدان الأوروبية مثل ألمانيا وبولندا وسويسرا وإيطاليا وبريطانيا والسويد والنرويج والدنمارك وغيرها من البلدان البعيدة في افريقيا، إذ تمخّضت عن هذا التجواب في بقاع العالم كتابات متوهّجة، تنتمي إلى ما يسمّى بأدب الرحلة، فضلاً عن كتاباتهما في الصحافة وإدارتهما لمجلات مهمة، وكتابة سير ذاتية، كما فعل سارتر حين دوّن سيرتي غوستاف فلوبير وجان جينيه، دون أن ينسى سارتر ودوبوفوار الكتابة عن نفسيهما في مذكرات ومدوّنات شخصية، ككتابة سارتر لسيرته الشخصية «كلمات» التي نال عنها جائزة نوبل.
وكذلك هو الأمر مع سيمون دوبوفوار المغامرة، والكاتبة المثالية، التي كشفت كل شيء وعرّت حياتها تماماً أمام الملأ في رسائلها لسارتر حين يكون غائباً، أو حين تكون مسافرة، فكشفت كل التفاصيل، حتى سارتر نفسه كان يتحدى جرأتها، وهي أيضاً من طرفها كانت تفصّل المدى المتنوّع الذي وصلت اليه، مع عشيقها في أمريكا، أو في باريس المنفتحة على عالم متحرر نهائياً، وهي تأتي، أي باريس، بالضد من أمريكا، التي تعد محافظة حينذاك، قياساً بباريس وصرعاتها المتواصلة، والمتمثلة في ثورات أدبية وجنسية، وحتى سياسية وفكرية وفنية.
كان سارتر صديقاً لتلميذه البير كامو الذي عمل في مجلة سارتر «الأزمنة الحديثة» فهو فيلسوف وروائي وكاتب منافس لسارتر، هذا الذي لا يصدّه شيء لقول رأيه، أو مواصلة التفكير الدائم بعمله وبالكتابة عامة.

البير كامو الهادئ والوسيم، الذي كانت النساء تلتف حوله حين يكون موجوداً، وهو بالضد من سارتر القصير، القبيح، وضئيل الجسم، والأحول، الشرس كتابياً، والمناضل الذي لا تلين عريكته، أمام المغريات والمناصب والجاه والمال والسلطة، فهو قد حاز المال الوفير من ريع كتبه المثيرة، التي تطبع عدة طبعات في العالم، لم يكن يضع نقوده في البنوك، لأنه لا يؤمن إلا بالحرية والعيش المشترك والإنفاق المتواصل، عبر تمتّعه بكرم شديد، غير محدود وهو يمنح المال للذي يحتاجه، كشراء شقة لأحدهم، أو تدبير شؤون تلميذ أو تلميذة لا يملكان المال لغرض مواصلة سبل العيش والدراسة، فكان يهب كل ما لديه دون حساب وتدبير، إلا فيما ندر.
كانت مسرحياته تعرض طوال العام، وكان يُعِين ممثلات يأتين من موسكو، أو أوكرانيا مثلاً، لتمثيل أحد الأدوار الرئيسية، ونالت مسرحياته نقداً بليغاً، ولاقت استحساناً من قبل الجو الأدبي والمسرحي الفرنسي، كما لاقت رواياته الشهرة الموازية ذاتها، وحصدت روايته الأولى «الغثيان» العديد من الدراسات المهمة، أما دراساته وكتبه الفلسفية والفكرية، فقد لاقت شهرة لا مثيل لها جنباً الى جنب رواياته، فهناك كتاب «الوجود والعدم» وكذلك كتاب «نقد الفكر الديالكتيكي» وثمة أعماله الأدبية والمسرحية والروائية مثل «الجدار» و«الغثيان» و«الأيدي القذرة» و«المومس الفاضلة» وغيرها الكثير.
أما سيمون دوبوفوار فقد تميّزت بكتابة المذكرات واليوميات والسيرة الذاتية والبحوث الفلسفية والاجتماعية، ونشرت بعض الكتب الفكرية والروائية مثل «الجنس الآخر» و«دماء الآخرين» و«المدعوة» و«المثقفون» وغيرها من الكتب حول المرأة، وكانت أول ناشطة عالمية في شؤون وحقوق المرأة.

شاعر وكاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب