الثقافة الرقمية.. رؤية معاصرة
بقلم الدكتور فوزي يوسف المخلف
المجتمع الإنساني والكوني بصورة عامة مرّ بمراحل متعددة وتحولات كبيرة… منها ما قبل التاريخ والتي كانت مواضيع يتم تناقلها عبر قنوات الأساطير وربما الخرافة, ولغات التخاطب بين الكائنات الحية والتعامل بين الحيوانات المختلفة وربما شطح الخيال ليجنح الى النبات وربما الجماد… ومنها ما كان ضمن الحقب التاريخية التي دونت بشيء من الفهم أو الرؤية التي طغت على المؤرخ أو المنقب ألآثاري… وإذا كان الحرف المسموع ومن ثم المكتوب له قصب السبق في قاعدة البيانات للتحولات الاجتماعية والكونية. وكثير منا من يدعي فخراً – وله الحق إن كان ذلك صحيحاً – أن التربة التي نعبث ونلهو بها اليوم هي العجينة الأولى التي تشكل منها الحرف الأول… هذا الحرف الحي الخلاق توالدت عنه المتغيرات العلمية والاجتماعية, وآخرها الثورة الصناعية والتي لم نعي – نحن أولي الحرف الأول – كنهها ولم نجاري ديناميكية تطورها مع أن مساحة نشاطها عريضة وواسعة…
لتجتاح الأوساط وبلحظات خاطفة ثورة رقمية قلبت كل الموازين وتجاوزت المثابات.. لتخلق عالماً (آخر) له حساباته الدقيقة وأبعاده اللامتناهية لتماس هذه الحسابات والأبعاد وربما تخترق العالم الماثل المعاش… ليبقى الفاصل المقاوم هو الضمير الإنساني الذي راح يحتضر أمام عصف وجبروت هذا الزائر الجديد… واذا كان ناقوس الفكر الاسلامي العربي قد قرعه قبل ألف عام القاضي عبد الجبار ألمعتزلي. إلّا أننا اعتبرناه (مساس) بالسلطة الحاكمة. و وُئد عند هذا الأخدود…
الدكتور فوزي يوسف وبثقافته الإعلامية تعامل بحذر شديد. ولم يغرق ويتوه في المتغيرات والأبعاد والتحولات الرقمية العلمية. إنما آثر – وكان موفقاً – أن يتعامل مع (الثقافة الرقمية) ومدى تأثير هذه الثقافة على نمط وسلوك الأفراد والمجتمع… ليقدم بحثا أكاديمياً ممنهجاً ابتدأ بمقدمة عرضت الموضوع عرضاً مجزياً… عرض للواقع الافتراضي الذي طغى على الواقع الاجتماعي المعاش أو كاد… مع أن مفهوم أو مصطلح (المجتمع الافتراضي) قد لا يصح دائماً على العوالم الرقمية التي تتعامل مع دقائق مجتمعية موجودة ولكن بأنماط غير تقليدية… وربما قد تقدم فهماً أو تصوراً (للآيات) الدينية , التي لا زال العقل البشري المعاصر يقف عند (حكمتها) وحسب…
ثم قسم موضوعه الى أربعة فصول
خص الفصل الأول بالظواهر الاجتماعية والأخلاقية السلبية في العصر الرقمي. ليعرض عدداً من الظواهر المجتمعية (السلبية) بإحاطة متمكنة ودقيقة.
وفي الفصل الثاني تطرق الى الخصوصية بين الانتهاك والحماية في ظل الإعلام الجديد… والكاتب بعد أن يعرّف الخصوصية والأنماط الرقمية التي تنتهك هذه الخصوصية. ويؤشر مكامن الخطر و وجوب المعالجة بالوقاية أولاً… ومن ثم بالردع. إن كان اجتماعياً أو بتقنين قواعد تجرّم وتعاقب على انتهاك الخصوصية. وهنا نتفق مع الكاتب أن المنظومة القانونية القائمة تعجز أو تقصر عن مواكبة المتغيرات الرقمية وبالتالي إسقاطها على الفعاليات المجتمعية… والتشريعات أو (مشاريع) القوانين الخجولة لازالت دون مستوى التوفيق بين خصوصية الفرد, وبين انتهاك خصوصية المجتمع.
وفي الفصل الثالث عرض للتنمر . ومقارنة التنمر التقليدي مع التنمر الالكتروني بعد تعريف التنمر وتاريخه وأشكاله وسلوكياته… وطرائق وقفه.
أما في الفصل الرابع وهو الأخير فقد أبحر بنا الكاتب بسفرة (نزهة) ترويحية بمقارنة جميلة وهادفة بين مقاهي (أيام زمان) ومقاهي الانترنت.
وإذ ابتدأ بمقدمة مضغوطة تحت مفهوم الثورة الرقمية وتحجرها على الصعيد الإنساني والروحي. فانه ما لبث أن انطلق الى الفضاء الأوسع ليدعونا الى ارتشاف قدح شاي على أريكة خشبية (لنخلع) كل تلك الأرقام المتحجرة ونرميها وراء فضاء تلك (الاريكه) المفروشة بحصيرة مضفورة من سعف نخيل العراق .. ونستعيد بعضاً من صور تلك المقاهي بعد المقدمة عن تاريخ نشوئها…
فكانت مقاهي البرلمان, والمربعه, والشط, والبرازيله, والزهاوي, في شارع الرشيد… والشابندر…
وكنا نأمل على الكاتب وهو صاحب الإحساس المرهف أن يعرج قليلاً على مقاهي الموصل التي كانت… مع أني التمس العذر لي وله.
أما مقاهي الشرقاط.. مع أننا غادرنا الشرقاط بعد إنهاء مرحلة الدراسة الإعدادية.. وقبل ذلك وأثناء تلك المرحلة. إن لم يكن ممنوعاً. فانه من غير المقبول جلوس أترابنا وارتشاف الشاي وفي المقهى أب لنا أو أب احد زملائنا أو أحد معلمينا أو مدرسينا… ولكن الوفاء واجب يحتم على الأبرار إصرا..
الكتاب من إصدارات دار أسامة للنشر والتوزيع الأردن – عمان ويقع في (384) صفحة من الورق الأبيض الصقيل ومجلد بغلاف مقوى أنيق…
وقد أهداني مشكوراً أخي العزيز الدكتور فوزي يوسف المخلف نسخة منه قبل أكثر من أسبوعين. وأرجأت الكتابة عنه لأقدم دراسة ترتفع الى مصافه… ولكني أخفقت.. ولا مورد لعذر.,
الموصل 19 / 9 / 2024