ثقافة وفنون

باليه بتروشكا: المهرج الدمية في وهم الحياة

باليه بتروشكا: المهرج الدمية في وهم الحياة

مروة صلاح متولي

عرض باليه بتروشكا للمرة الأولى سنة 1911، ويعد حتى اليوم من العروض المهمة في ريبرتوار الباليه الروسي، وهو باليه قصير من فصل واحد يستغرق عرضه نصف ساعة تقريباً. ألف هذا الباليه كل من إيغور سترافنسكي وألكسندر بينوا، ووضع سترافنسكي موسيقى العمل أيضاً، وصمم رقصاته ميشيل فوكين. يتكون باليه بتروشكا من عدة مشاهد أو صور راقصة، ويوجد فيه أربع شخصيات رئيسية هي، الحاوي الدجال Le charlatan، وثلاث دمى من مسرح عرائس شعبي متنقل، هم بتروشكا المهرج، والباليرينا، والموري الأسمر Le Maure. تقع أحداث الباليه سنة 1830 في مدينة سان بطرسبورغ، أثناء إقامة احتفال شعبي أو مهرجان في إحدى المناسبات الدينية المسيحية، المرتبطة بشكل ما بالصوم الكبير، يعبر الباليه فنياً عن جانب من الثقافة الشعبية الروسية والكرنفالات والعادات الاحتفالية في الأزمنة القديمة، وقد يبدو ما نراه في باليه بتروشكا شبيهاً بالمولد عندنا، حيث اجتماع عدد كبير من الناس في ساحة واسعة، أو في ميدان من أجل الاحتفال بمناسبة ذات شأن ديني.
يكون المكان في باليه بتروشكا أشبه بالمعرض المفتوح الذي يضم ألواناً من الفنون والألعاب ووسائل الإمتاع والترفيه، فهناك مسرح العرائس الصغير المتنقل الذي يضم ثلاث دمى فقط هي، بتروشكا والباليرينا والموري، وصندوق الدنيا الذي يشاهد الناس من خلال فتحاته الحكايات المصورة، وهناك الراقصون والراقصات والغجر وفنونهم المختلفة، وأجواء المرح والإثارة، كما في رقصة الدب أو الرجل المتنكر في مظهر دب أسود ضخم. على الرغم من قصر مدة هذا الباليه زمنياً، إلا أنه غني ومتنوع ومليء بالتفاصيل وممتع بصرياً بشكل مدهش، بالإضافة إلى روعة تصميم الرقصات وتنوعها الشديد بين حركات الباليه الكلاسيكي، التي تؤدي معظمها الباليرينا أو دمية الباليرينا، ورقصات الغجر والرقصات الشعبية الروسية التي يؤديها الرجال، والتي تتطلب مهارات خاصة وقوة بدنية كبيرة، حيث تعتمد هذه الرقصات على قوة عضلات السيقان بشكل كبير، كرقصة البريسيادكا على سبيل المثال، حيث يجلس الراقصون في وضع القرفصاء طوال الوقت تقريباً، مع أداء الحركات السريعة الصعبة وهم في هذه الوضعية، بالإضافة إلى الطابع الحركي المميز والتصميم الراقص الخاص بكل شخصية من الشخصيات الرئيسية في الباليه، أو بكل دمية من الدمى الثلاث بتروشكا والباليرينا والموري، فالموري الأسمر بملابسه وسيفه وهيئته المختلفة، التي تدل على أنه أجنبي غريب عن هذا المكان الروسي، أراد المصمم أن تعبر حركته عن كل ذلك أيضاً، فحركاته غريبة قوية حادة بدرجة ما، ويبدو أنه لا يتقن سوى الفوز، سواء الفوز العاطفي أو الفوز البدني بمقاييس القوة، وعلى الرغم من أنه يفوز بالباليرينا، أو الحبيبة موضع الصراع في مثلث الحب، إلا أنه لا يبدو عاطفياً أو عاشقاً مؤرقاً بالحب، بل يبدو مهتماً أكثر بالجانب الحسي وقضاء أوقات السعادة والمرح بعيداً عن الهموم العاطفية والآلام النفسية، إنه يأخذ الحياة بشكل مادي عملي، ولا تطرح شخصيته أي تساؤلات درامية، أو فلسفية، على العكس تماماً من بتروشكا.

ويجب ألا ننسى أن التصميم الحركي الراقص لكل من الدمى الثلاث، يختلف عن أي رقص آخر نراه في الباليه، فالحركة وإن كانت من خطوات الباليه الكلاسيكي، إنما تكون موضوعة في إطار يبرز حقيقة أن هذا الراقص في الأصل ما هو إلا دمية، وإن دبت فيه الحياة أو توهمنا ذلك. وبالطبع يعد رقص بتروشكا أو دمية المهرج لافتاً للغاية، باعتباره بطل العمل، ونظراً لأنه في قصة الباليه يجمع بين المهرج والعاشق، فبتروشكا واقع في غرام الباليرينا الجميلة، التي تكون في المنتصف بينه وبين الموري في كشك العرائس، والباليرينا تهوى الموري وتتبعه حيث يذهب، ولا تلتفت البتة إلى بتروشكا، ولا يعنيها حبه لها، يُهزم بتروشكا عاطفياً ويموت منكسراً، ثم يترك المشاهد حائراً يتساءل هل مات بتروشكا بالفعل أم لا؟ وهل كان حياً بالفعل أم لا؟ هل استطاع الحاوي الدجال أن يبث الحياة في هذه الدمى الثلاث ويحولها إلى آدميين يخوضون صراعاً عاطفياً؟ أم أنه مارس خداعاً على الجمهور في الاحتفال الشعبي، وبث الوهم في نفوس الجميع بمن فيهم بتروشكا نفسه، وهل صنع الحاوي الدجال وهماً استفحل وصار من الصعب السيطرة عليه أو التحكم فيه؟ كما حدث في نهاية الباليه، حيث فزع الحاوي نفسه عندما وجد بتروشكا حياً بعد موته، يقوم بحركة مريبة غامضة قد توحي بالحياة فعلا، أو ربما كانت ارتعاشة الموت الأخيرة.
تعتمد حركة بتروشكا في أحيان كثيرة على الخفة والسرعة، لكنها رغم ذلك تميل إلى الضعف، على العكس تماماً من القوة التي يتمتع بها الموري والعنفوان الشديد الذي يبدو في كل حركة من حركاته، وتكون الذراعان عند بتروشكا في مظهر رخو معظم الوقت متدليتان إلى الأسفل، مع انحناء الجسد أيضاً كدمية هشة لا يوجد ما يدعمها ويقيم جسدها، كما يلعب المظهر الخارجي لبتروشكا من ملابس وماكياج دوراً كبيراً في مضاعفة التأثير وخلق التعاطف مع هذه الشخصية، خصوصاً ماكياج وجه المهرج بما فيه من أصباغ وألوان، وذلك المزيج بين الحزن العميق والابتسامة الغامضة المقلوبة، أو نصف الابتسامة المرسومة عنوة على شفتيه.
يبدأ الأمر عندما يقدم الحاوي الدجال إحدى ألاعيبه أمام الجمهور، ويقوم بإحياء الدمى الثلاث، أو يوهم الناس بهذا، فتتحرك الدمى وتخرج من مسرح العرائس، أو من ذلك الكشك الذي يتجمع الناس أمامه لمشاهدة عروض العرائس. ترقص كل دمية من الدمى الثلاث رقصتها، ويبدأ الصراع الدرامي، حيث مثلث الحب الذي يفوز فيه اثنان ويخسر الثالث دائماً، الحبيبة ومن تحب، وطرف ثالث يحبها بينما هي لا تبادله الشعور ذاته، فبتروشكا يحب الباليرينا، والباليرينا تحب الموري، يشعر بتروشكا بالألم العاطفي وبالغيرة الشديدة من الموري، ويسعى إلى مهاجمته من أجل الفوز بالباليرينا، لكنها ترفضه وتتمسك بالموري، وبعد عراك كبير بين الرجلين أو الدميتين يقوم الموري بقتل بتروشكا بضربة من سيفه العريض المقوس. تتعاطف الجموع مع بتروشكا الملقى على الأرض وتأسى وتبكي من أجله، فيحاول الحاوي الدجال أن يهدئ من روعهم، ويخبرهم أن بتروشكا مجرد دمية لا حياة فيها ولا يمكن أن يُقتل أو أن يموت، وبالفعل يتحول بتروشكا إلى دمية مرة أخرى، لكن الروح تدب فيه من جديد في الظلام بعد انصراف الناس، ويفزع الحاوي عندما يراه يتدلى من أعلى كشك العرائس، وتتأرجح ذراعاه يميناً ويساراً، ويظل الوهم يطارد الجميع.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب