مقالات

الطغاة الرقميون: فجاجة الإغراء وسذاجة الحلول

الطغاة الرقميون: فجاجة الإغراء وسذاجة الحلول

مالك التريكي

قبل أيام شاهدت وثائقيا شيقا عن كواليس البرنامج السياسي الصباحي في الإذاعة الإخبارية الفرنسية «فرانس أنفو» الذي يعرف بأنه أحد أهم البرامج المؤثرة في الحياة السياسية الفرنسية، على نحو مشابه لعلوّ شأن برنامج «توداي» الصباحي الشهير على راديو بي بي سي 4 في الحياة السياسية البريطانية. أهمّتني رؤية المطبخ الداخلي في هذه القناة العمومية المحترمة والصعوبات التي تعترض الصحافيين وهم يحاولون معالجة الإشكالية الكبرى المتعلقة بمحاولة أداء المهمة الإعلامية الشريفة، بما ينبغي من حس النزاهة الشخصية والمسؤولية الاجتماعية، في ظل سطوة وسائل التواصل وانتشار الأخبار الزائفة وشدة الضوضاء الرقمية التي «يغلب فيها الحر على النور» كما يقول التعبير الإنكليزي.
أما أطرف المشاهد فقد تمثلت في المحادثات الجانبية، قبل البث على الهواء وبعده، بين الصحافيين والسياسيين. ومنها مشهد جدال، أثناء حملة انتخابات 2022، بين صحافية من أصل مغاربي وبين مرشح الحزب اليميني المتطرف جوردان بارديلا حول ترحيبه باللاجئين الأوكرانيين ودعوته لصد اللاجئين من البلدان العربية والإسلامية. قالت له: ألا تشعر بتناقض موقفك؟ لماذا لا تعترف أن دافعك عنصري، وأن سبب رفضك للاجئين السوريين والأفغان هو أنهم مسلمون؟ وكان ثمة مشهد آخر استشاطت فيه مارين لوبان غضبا لما سئلت عن الراتب العالي (بزيادة 250 بالمائة في عام واحد!) الذي تتقاضاه من حزبها رغم أنه مثقل بالديون، ورغم أنها لم تعد رئيسة للحزب وأن جوردان بارديلا تولى الرئاسة خلفا لها «تطوعا» أي بلا راتب! هذا إضافة إلى راتبها عن عضويتها في البرلمان، وراتبها عن عضويتها في مجلس إقليم منطقتها النيابية. زمجرت السياسيّة ما استطاعت، ولما أعيتها الحيلة قالت للصحافية: من حقي أن أسألك أنا أيضا عن راتبك.

في هذه البيئة المنافية لأبسط مبادئ العقل صار الإعلام الجاد، الضامن لدقة المعلومة وحرية الرأي (المعّلل بالحجة والبرهان) مهددا في وجوده

فأجابت الصحافية: أولا أنا لست شخصية عامة ولا أطمح لحكم البلاد، ثانيا رواتب الصحافيين في الإعلام العمومي محددة معلومة ويمكن للجمهور الاطلاع عليها كلما أراد. ثم طعنتها الطعنة النجلاء قائلة: أنت تزعمين أنك تدافعين عن البسطاء والفقراء حتى ليخيل للمرء من كثرة كلامك عنهم طيلة عقود أنك منهم، بينما الحقيقة أنك من الأثرياء الناعمين برغد العيش! ولكن أقوى ما جذب انتباهي هو قول السياسي اليساري جان-لوك ميلنشون للصحافيين وهو يشاربهم القهوة قبل بدء البث: لقد صرنا جميعنا أسرى في بيئة إعلامية فوضوية محيرة، إذ إن مقطعا إخباريا جادا لا يحظى على يوتيوب إلا ببضعة آلاف من المشاهدات، ولكن ثمة مقطعا لكلب يركض ويلعب قيل لي إنه حظي بخمسة ملايين مشاهدة. ثم أشهر أصابعه وكرر: أتدركون؟ خمسة ملايين للكلب!
هذه البيئة التي تحتفي بالتفاهة والخواء واللا-معنى هي البيئة ذاتها التي تحتفي بشخصيات تافهة وغريبة الأطوار من أمثال ترامب. فقد سمعت مراسلة من واشنطن تشرح سر شعبية هذا الرجل العديم الخصال شرحا أظنه يثبت أنها عثرت على مفتاح اللغز. قالت: إن عشرات الملايين من أتباع ترامب، ممن يناصرونه ظالما أو مظلوما ويعدّونه يسوع هذا الزمان، إنما يحبونه حبا جما لأن ما يعجبهم فيه هو أنه متقلب لا يثبت على حال ولا يرسو على برّ: يصدم الناس كل يوم بموقف قد يناقض موقفه السابق، ويحقّر المتعلمين والمستنيرين وجميع المنتمين للنخبة السياسية أو الثقافية. أما أحبّ ما يحبّبه إليهم فهو أنه يتكلم عفو الخاطر ويقول كل ما يخامر ذهنه، حتى لو كان (وكثيرا ما يكون) كلاما بلا معنى وبـ»لا راس ولا أساس»!
في هذه البيئة المنافية لأبسط مبادئ العقل صار الإعلام الجاد، الضامن لدقة المعلومة وحرية الرأي (المعّلل بالحجة والبرهان) مهددا في وجوده. ومصادر التهديد، كما يحددها برونو باتينو مدير قناة التلفزيون الفرنسية-الألمانية الممتازة آرتي، أربعة: أولا تهميش الإعلام وتقليص المساحة المتاحة له في المجال العام؛ ثانيا نزع المصداقية عنه؛ ثالثا تبديد طاقته في دوامة مشاحنات وسائل التواصل؛ وأخيرا إفقاره بإفقار المؤسسات الإعلامية والإعلاميين على حد سواء.
ولعل أخطر ما ينبه إليه باتينو هو أن تراجع الإعلام الجاد، وذبول ما يسميه «الثقافة الوقائعية» عموما، إنما هو دليل على أن كل الناس معرضون لخطر الافتتان، ذات يوم، بالسرديات المتطرفة والوقوع تحت سحر «الطغاة الرقميين» الذين لا يتخذون الخوف سلاحا مثل سابقيهم من الزعماء الأقوياء المستبدين، وإنما يستخدمون أسلحة الابتزاز العاطفي واستثمار السخط الشعبي، مع وفر من سذاجة الحلول وفجاجة الإغراء بطوبى الأماني.

كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب